أفكار لمبادرة عربية في سوريا

عبد الناصر العايد

أثارت الانعطافة التركية نحو نظام الأسد، وكما يحدث عند كل مفترق طرق، التساؤل بين السوريين عن الدور العربي. ومن ناحيتهم، يتساءل قادة الصف العربي عن عروبة السوريين، وفيما إذا كان الشعب الذي نبعت منه أفكار القومية العربية ما زال يفضلها على الولاء لإيران بالنسبة للموالاة، أو لتركيا بالنسبة للمعارضة.

لقد تدخلت الدول العربية عبر الجامعة العربية، في القضية السورية بقوة في سنواتها الأولى، لكن تدخلها تعثر لأسباب كثيرة، ونشأت فجوة تزداد اتساعاً من دون أن يبادر أي من الطرفين إلى ردمها أو جسرها، ومن نافل القول أن الفراغ ملأته إيران وتركيا اللتان تتنافسان على نحو استراتيجي لتكريس هيمنتهما على هذا البلد إلى أمد طويل.

إن ما تمثله سوريا لطهران وأنقرة هو بالدرجة الأولى كونها منصة وبوابة لاستهداف العالم العربي والسيطرة عليه، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وهو هدف لا يتحقق سوى بإضعاف سوريا أولاً، وعزلها عن عمقها الاستراتيجي وإضعاف موقف الوطنيين من أبنائها. وليس من المحتمل أن أحداً من القادة العرب يجهل هذه البديهيات، كما لا تجهلها النخب السورية الوطنية، فلماذا يستمر الطرفان بتجاهل بعضهما البعض، والنظر كل منهما إلى الآخر من وراء أكتاف هذا الحليف أو ذاك، فيما تزول سوريا كما يتمناها السوريون، ويضيع الثغر الشمالي كما ينظر إليه العرب؟

ربما تكون البداية الصحيحة للتفكير في المسألة، هي النظر بواقعية إلى المعطيات التي تحكم علاقة الطرفين، وأخذ المصالح الفعلية لكل منهما بعين الحسبان. فما يُجفل الأنظمة العربية ويمنعها من الدفع فعلاً نحو انتصار الثورة السورية، هو ديناميكيتان متعاكستان داخلها. الأولى، هي بُعدها الديموقراطي الشعبي، الذي ينذر بنقل عدواه الاجتماعية والسياسية إلى كامل المنطقة ومجتمعاتها، وهو ما يقوض أسس السلطات العربية القائمة جميعها تقريباً. والبُعد الآخر هو النبرة الإسلامية العالية التي توحي بها الثورة السورية، التي قد تتحول أيضاً إلى منبع تهديد لتلك الأنظمة على غرار ما شكّله التهديد القومي في الحقبة الناصرية. من ناحية ثانية، يخيف جمهور الثورة السورية من الدول العربية نزعتها إلى تمكين قادة ديكتاتوريين يخضعون لها بشكل كامل أو يكونون على الأقل جزءاً من “النظام” السائد، وبالتالي عودة سوريا إلى مربع الاستبداد، وكأن شعبها ما غزا ولا ضحّى.

الجانب العربي في مأزق، فهو إن قبل بهيمنة إيران على سوريا، فسوف يسقط جدار آخر، بعد العراق ولبنان واليمن، يمنع النيران المذهبية من الوصول إلى قلب داره. وإن تجاهلت المطامح التركية، ستصبح مهددة بالمد الإسلامي وهدم الدار فوق رؤوس أهلها. ولكلا الخطرين علامات لا يمكن إنكارها في سوريا، فالمليشيات الإيرانية ما زالت في صعود، وجمر “داعش” ما زال تحت الرماد ولا يمنعه من التأجج اليوم سوى الضغط الأميركي المتواصل.

الجانب السوري ونُخبه في مأزق أيضاً، فهو إن لم يتحالف مع تركيا، التي تبادر ولم تدخر مناسبة لعرض مساعدتها، فإن الثورة السورية ستُهزم، ولن تقوم قائمة للشعب السوري لعشرات السنين. فنظام الأسد الذي سيعود منتقماً، لن يرضى سوى بتهيئة الظروف لتولي حفيد بشار الأسد للسلطة، لا ابنه فحسب، وهو خيار أمرّ من العلقم. أما بالنسبة لجمهور الموالاة، الذي لا يجدر بقراءةٍ واقعية أن تتجاهله، فهو ينظر إلى تحالفه مع إيران كمسألة حياة أو موت، فمن ذا الذي سيمنع خصومه الطائفيين من ابادته ثأراً وكرهاً؟

بالنسبة للسوريين، معارضة وموالاة، فإن سوريا من دون أحد الحليفين، التركي أو الإيراني، هي غابة ستفترسهم وحوشها بلا تردد. وبالنسبة للأنظمة العربية، فإن سوريا أيضاً، ومع إيران أو تركيا أو كليهما، هي كتلة النيران الحرجة التي يمكنها أن تتدحرج إلى بلدانهم لتدمرها، خصوصاً دول المشرق العربي. فما الحل؟ وبعبارة أدق، ما هي الخطة العملية سياسياً التي يمكن للطرفين أن يتوافقا عليها وينطلقا منها لتحقيق مصالحهما المشتركة؟

إن الطرح الذي يمكن للمعارضة السورية أن تقدمه للطرف العربي، لا بد أن يكون ذا مضمون وطني سوري، نابذاً لنزعات الهيمنة الإقليمية ويرسخ بالتدريج سيادة السوريين واستقلالهم، ويؤكد على العلاقة مع العرب كشأن وطني سوري، وليس بوصفه واحداً من شؤون العلاقات الخارجية. أما ما يستطيع العرب تقديمه للسوريين، فهو اعتبار القضية السورية شأناً من شؤون العرب قبل أي طرف آخر، وأنها من يجب أن تقرر فيه، وأن تتحمل كلفة حلّه كقضية أمن وطني لكل دولة من دولهم. ولأن الطرح الوطني لا يستقيم من دون النظر إلى الكتلة التي تحتمي بنظام الأسد، فإن على الطرف العربي أن يعلن التزامه بضمان مصالح هذه الفئة بالتوازي مع التعهد للمعارضة بعدم التفريط في مَطالبها الجوهرية.

من ناحيتها، فإن على النخبة السورية التي يمكن أن تنخرط في هذا الحل، مراعاة حساسيات الدول العربية وهواجسها، وأن ينعكس ذلك في خطابها وسلوكها من حيث انحيازها بوضوح لمصالح تلك الدول، الداخلية منها والجيوستراتيجية، وهذا ما يمكن توثيقه من خلال تفاهمات والتزامات متبادلة.

تتمثل العقدة الفعلية أمام مشروع كهذا بوجود بشار الأسد في السلطة، الذي لا يستطيع أي معارض سوري يتمتع بحس المسؤولية والبصيرة، أن يقبل بقاءه، مهما كانت المُغريات. ليس لأن هذا مضاد لمشاعر جمهور المعارضة فحسب، بل لأن بشار الأسد لا يستطيع أن يغير نفسه أو يتراجع خطوة إلى الوراء، وهذا ما أثبتته السنوات الماضية التي لم يتردد خلالها في قتل مئات الآلاف من السوريين، معارضة وموالاة، ومنح البلاد للمحتلين، مليشيات ودولاً، في سبيل تثبيته في السلطة. لكن جمهور الموالاة لا يستطيع أيضاً القبول بإزالته، لعدم وجود شخص أو جهة أو صيغة تضمن مستقبلهم.

إن مبادرة عربية تزيل بشار الأسد من الحكم بطريقة ما، وتكفل مصالح الكتلة المُحتمية به، يمكنها أن تكون منطلقاً لمبادرة مقبولة مبدئياً من طرف “المعارضة الوطنية السورية”، وأقصد أولئك الأفراد المتناثرين الذين ما زالوا ينظرون إلى سوريا كوطن سيد وواحد ونهائي لهم، والذين تستطيع أي دولة عربية فاعلة توحيدهم وتحويلهم إلى لاعب سياسي بمجرد تبنيها لقضيتهم. ومن جهة أخرى، تستطيع دول عربية فاعلة إنجاز توافق دولي من خلال علاقتها بكل من بموسكو وواشنطن، حول مشروع انتقال سوري تضمنه الدولتان الكبريان، ويرعاه الطرف العربي.

سيبدو هذا المقترح مغرقاً في التبسيط لأنه لم يأخذ عوامل كثيرة في الاعتبار. والحقيقة هي أن أخذ كافة عوامل القضية السورية المعقّدة في الحسبان، وتلبية متطلبات كافة الأطراف، في مبادرة واحدة، شبه مستحيل. وقد راوحت القضية السورية بما يكفي أمام هذه التشابكات، وتمزق السوريون ألف مَمزق، وما عاد أمامهم من خيار سوى تحديد خياراتهم بأكثر العبارات بديهية، وهي أن سوريا للسوريين، وعمقها عربي، وما دون ذلك فإن ما يُعرف بالجمهورية العربية السورية سينقسم في الواقع إلى ولاية إيرانية تتحدث اللغة الفارسية، وإيالة تتبع لأنقرة وتتكلم التركية.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا