ألمانيا التي تُجرّ هذه المرة الى حرب عالمية

عبد الناصر العايد

تعيش ألمانيا صراعاً صامتاً مع نفسها وتاريخها وعقدها، ومع حلفائها ومنافسيها. فللمرة الأولى، بعدما طوت صفحة الحروب وويلاتها بنهاية الحرب العالمية الثانية، ها هي مدعوة لقيادة واحدة من أخطر الحروب في تاريخ البشرية جمعاء، فيما لو قُدّر لنيرانها أن تتعاظم وتكتمل، أي الحرب التي تستعر منذ نحو السنة في أوكرانيا، والتي تنتظر فصلاً أكثر دموية مع ذوبان الثلوج.

تقع قاعدة رامشتين الجوية الأميركية في جنوب غربي ألمانيا، وهي مقر القيادة الأميركية لقواتها في كامل أوروبا وإفريقيا، وبوابة العمليات الجوية الأميركية، ومنها تُقاد الطائرات المسيّرة إلى أهدافها حول العالم، وبسبب ذلك كله تعتبر المنطقة الأكثر كثافة بالأميركيين في العالم، بحيث تبدو مثل قطعة من أميركا في الجغرافيا الألمانية. في ذلك المكان الخطير جداً، اجتمع، الأسبوع الفائت، قادة المستوى الأعلى من خمسين دولة، بينها دول حلف الناتو، لبحث المساعدات العسكرية التي ينبغي تقديمها لأوكرانيا لمواجهة الغزو الروسي، وقد ضغط الجميع بلا استثناء على ألمانيا لتقديم الدعم للأوكرانيين.

المفارقة أن ألمانيا التي ألقت السلاح وذكرياته وتاريخه بعيداً جداً منها، بطلب من الحلفاء في أواسط القرن الماضي، مدعوة اليوم لتكون رأس حربة الحلفاء الجدد في حرب لا أحد يعرف أين ستنتهي، في نسخة عكسية من التاريخ الحديث الذي يأبى إلا أن يكون “الرايخ” في خضم صراعاته.

الحكاية بسيطة. تريد الولايات المتحدة من ألمانيا أن تقدم مئات من دباباتها الفعالة المسمّاة “ليوبارد-2″، لأوكرانيا، لمواجهة تقدّم القوات الروسية. هذا الطلب بسيط. يوجد من هذه الدبابة نحو 3200 قطعة مخزّنة، وسقف المطالب الأوكرانية نحو 300 منها فقط، والخبر قد يمر في زحام الأخبار المتسارعة عن الدعم الذي تتلقاه كييف كخبر اعتيادي. لكن الأمر ليس كذلك إطلاقاً، إذ أن “ليوبارد-2” دبابة قتال رئيسية، أي حجر زاوية في المعركة البرية الحديثة، وبسبب تفوقها تستطيع الدبابة الألمانية قلب موازين الصراع على الأرض في أوكرانيا، أي في جوهر الصراع القائم على احتلال ذلك البلد، وهذا سيؤلم بوتين بشدة، ولن يمرره لبرلين.

برلين أيضاً، إذا قدمت السلاح الأساسي للجيش الأوكراني، أو عموده الفقري، ستجد نفسها متورطة باستمرار في دعم ذلك الجيش ومتابعة شؤونه، من تدريب الطواقم على هذا السلاح الجديد، مروراً بالصيانة وقطع التبديل، انتهاء إلى الذخائر التي لن تتوقف مطالبات كييف بها حتى تتوقف مدافع الحرب بشكل نهائي. وستجد ألمانيا نفسها، عملياً، مسؤولة عن إدامة زخم العملية الأوكرانية على طول منحى الصراع الذي لا يُعرف مداه.

برلين أيضاً ستكون مضطرة، مع تزايد المخاطر بسبب هذا التدخل، إلى زيادة إنفاقها العسكري تحسباً لكل طارئ، وقد تكون نسبة الـ2% من الناتج القومي، التي طلب ترامب تخصيصها للنفقات العسكرية، رقماً متواضعا أمام الزيادة الاضطرارية في الإنفاق، وهي ستتكبد خسائر وتكاليف إضافية غير عسكرية عليها معالجتها، مثل التبادلات الاقتصادية مع روسيا ودول أخرى حليفة معها. وعليها أيضاً أن تواجه ما يعرف بأنصار روسيا في ألمانيا الشرقية السابقة، والذين قد يتحول قسم منهم إلى عملاء فعليين للكرملين في حرب استخباراتية قذرة.

المخاطر الماثلة أمام ألمانيا، جراء انخراط أكبر في الحرب ضد روسيا، واضحة بمقدار وضوح عجزها عن رفض هذه المهمة التي تبدو قدَراً. فأوروبا التي عاشت نحو نصف قرن من الازدهار الحضري والاقتصادي، لا تملك سوى دولتين من دولها القدرة على حمل العبء العسكري لمواجهة روسيا، وهما بريطانيا، التي تصطف وراء الولايات المتحدة متنطحة للمواجهة مع الصين ومتذرعة بها، وفرنسا التي، بالعكس من ذلك، تتخذ من الافتراق عن واشنطن واستقلالها عنها ذريعة لعدم الامتثال للخطط والأوامر الأميركية. ومع هذا الواقع، لم يبق أمام الدولة الأكثر استفادة من حالة السِّلم والاستقرار الأوروبية، أي ألمانيا، إلا أن تنهض بهذا الدور بنفسها، ليس بخيارها، بل بالإرادة الأميركية التي حددت بشكل واضح أن مواجهة روسيا تقع على كاهل الأوروبيين، فيما يقع على كاهلها مع بريطانيا مواجهة الخطر الأعظم أي الصين.

ليس الأمر محض قسمة غربية لجبهات العمل. فوراء الأكمة الكثير من الاعتبارات السياسية والاقتصادية، وربما الحسد والضغينة. فأن تكون قوة عظمى، لا يعني أن ينصاع لك الخصوم والمنافسون، ويحسبوا لك حساباً في كل خطوة يقدمون عليها. على الحلفاء أيضاً أن يدركوا بأن رخاءهم واستقرارهم الذي يتمتعون به، ليس مجانياً، وأن الثروات التي ينعمون بجَنيها ومراكمتها تحت المظلة الأمنية، لها ضريبة يجب أن تُدفع، وإلا فإن الأخ الأكبر سيصنع حرباً ويدفع الأخ السمين إليها، قائلاً: إذهب أنت وسياراتك الفاخرة وحارب الوحش.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا