اعترافات شاهد عيان حول الأفغان العرب والجهاد

 


مراجعة كتاب “إلى الجبال: رحلتي في الجهاد من الجزائر إلى أفغانستان”، للكاتب الجزائري والسياسي عبد الله أنس، وخطّه الصحافي تام حسين، من إصدار “دار هورست للنشر”، لندن،2019.

تُمثل اعترافات عبد الله أنس التي طال انتظارها حول المجاهدين العرب الذين حاربوا إلى جانب الأفغان، عملاً بالغ الأهمية، ليس بسبب ما قاله وحسب، بل أيضاً بسبب ما لم يقله. يروي الكتاب رحلة شاب جاء من الريف الجزائري مدفوعاً بقناعات أيديولوجية لتستقر به الحال في أفغانستان لمحاربة الاحتلال السوفياتي، قبل أن ينتهي به المطاف طالب لجوء في بريطانيا حيث يعيش حتى اليوم. يُركز الموضوع الرئيسي للكتاب على سبب إخفاق الحركة الجهادية التي كان يفترض أن تكون تجسيداً للتضحية بالنفس بدافع المثالية. وفي سعيه إلى ربط تطور الأحداث في سرده، يُحلل أنس بعض الأساطير الجهادية، ويتطرق إلى بعض نقاط الضعف الرئيسية للحركة، مثل افتقارها إلى القيادة والمعرفة السياسية. بيد أن المؤلف لم يمض قدراً كافياً في هذا السبيل؛ إذ إنه لا يكشف الكثير من الأسرار التي لا يزال يتعين الكشف عنها، نظراً إلى أنه لا يزال يكتنفه الغموض حول الأُسس الأصلية التي بُنيت عليها حركة المجاهدين الأفغان العرب.

شاهد على الجهاد الأفغاني

يُمكن وصف أنس بأنه الشاهد المميز، فقد انضم إلى الجهاد الأفغاني في وقت مبكر منذ بدايته. ويوضح بالتفصيل كيف ذهب لأول مرة إلى أفغانستان -في أوائل عام 1984- وبعد ذلك أمضى معظم السنوات العشر التالية داخل أفغانستان، مع زيارات بين الفينة والأخرى إلى مقر القيادة العامة للأفغان العرب في مدينة بيشاور، في باكستان. وقام أيضاً ببعض رحلات جمع الأموال إلى الولايات المتحدة. وهو أحد مؤسسي “مكتب الخدمات العربية” أو “ماك”، عبارة عن منظمة معنية بالخدمات اللوجستية للأفغان العرب، وتنظيم دور المقاتلين العرب في أفغانستان، بل إنه أدارها لفترة من الوقت. كان لدى مكتب الخدمات 52 مكتباً قانونياً تابعاً له في الولايات المتحدة خلال الجهاد الأفغاني، وهي معلومة يُمكن أن تُفاجئ كثيرين لا يستطيعون تصور ما آلت إليه التحالفات والانقسامات السياسية خلال حقبة الحرب الباردة. لاحقاً، سيتطور “مكتب الخدمات العربية” ليصبح “قاعدة” الجهاد، أو تنظيم “القاعدة”، الذي سيخضع لسيطرة أسامة بن لادن. إضافة إلى ذلك، تمتع أنس بمعرفة جيدة ببعض الجهاديين المشهورين من أمثال بن لادن، وخطاب (وهو جهادي قاتل ومات في منطقة شمال القوقاز الروسي)، لدرجة أن أبا مصعب الزرقاوي حضر حفل زفافه، ما يضفي أهمية خاصة على ما كشف عنه.

يبدو أن الهدف من الكتاب هو تطهير سمعة الجيل الأول من المجاهدين العرب الذين حاربوا مع الأفغان، وبخاصة أولئك من أمثال عبد الله عزام من خلال النأي بهم عن الفظائع التي اضطلع بها تنظيم القاعدة. يقول المؤلف  في الصفحة رقم 145 من الكتاب، “أنا، وبصفتي أحد مؤسسي “مكتب الخدمات العربية”، ينبغي أن أتحمل قدر من المسؤولية عن ولادة هذا الوحش الذي أصبح في ما بعد تنظيم القاعدة. إلا أنني أصر على أنني لست مسؤولاً عن النهج الذي اتبعه بعد ذلك”. أتخذ أنس في حياته اثنين من المجاهدين قدوة له: الأول هو عبد الله عزام، ترجع أصوله إلى فلسطين، وهو شخصية إسلامية، يمكن اعتباره الأب الروحي لحركة الأفغان العرب، بسبب دوره في إصدار فتوى عام 1979، شارك في توقيعها كوكبة من كبار العلماء المسلمين في ذلك الوقت، ساهمت في جعل الجهاد في أفغانستان واجب على كل فرد مسلم (فرض عين). الأمر الذي يعتبر مستحدثاً في أحكام الشريعة الإسلامية، التي تنظم قواعد الحرب بعناية تحت سلطة الدولة الإسلامية. بيد أنه من خلال هذه الفتوى، فُتحت أبواب الجحيم على مصراعيها، نظراً إلى أنها لم تجعل من قرار الذهاب إلى الحرب اختياراً شخصياً فحسب، بل أيضاً واجباً دينياً، ما خلق دوامة من التطرف المستمر للإسلام السياسي. والأدهى من ذلك أنه خلافاً لغيره ممن وقعوا على تلك الفتوى، كان عزام بنفسه حاضراً في المنطقة بين أفغانستان وباكستان، وعمل على تنظيم المساعدات العربية إلى جماعات المقاومة الأفغانية. إلى جانب أن أنس تزوج ابنة عزام بعد ذلك. أما الثاني فهو أحمد شاه مسعود، قائد المقاومة الأفغانية.

عبدالله أنس (الثاني من اليمين) خلال مرحلة الجهاد الأفغاني

عندما وصل أنس إلى الأراضي الأفغانية، لم يكن هناك سوى 15 مقاتلاً عربياً داخل البلد (ص42). كما لم يكن هناك أكثر من مئة عربي داخل أفغانستان يقاتلون ضد الاتحاد السوفياتي في أي وقت من الأوقات. ويستنتج من ذلك أن الأفغان العرب “لم يكن لهم أي أثر في المخطط الكبير للجهاد الأفغاني” (ص141). بيد أن أعداد الأفغان العرب الغفيرة، وصلت إلى هناك بعد شباط / فبراير عام 1989، أي بعد أن عبر آخر جندي سوفياتي جسر دروزبا، متجهاً إلى الأراضي السوفياتية. كان الدافع وراء مجيئهم بتلك الأعداد الكبيرة غالباً، محاربة نظام رئيس أفغانستان الأسبق، محمد نجيب الله، الأمر الذي قد يطرح أسئلة، لماذا لم يحاربوا الأنظمة الاستبدادية في بلادهم، التي كانت من النوع ذاته. وهو ما ينسف الأسطورة القائلة إن الجهاديين هم من دمروا الإمبراطورية السوفياتية.

المقاومة وانقساماتها

يصف الكتاب الانقسامات العميقة داخل صفوف المجاهدين الأفغان، وبين العرب الأفغان منذ بداياتهم. بيد أن أنس الشاب لم يلبث كثيراً حتى أدرك أن المشكلة التي تواجهها المقاومة الأفغانية ليست النقص في الأبطال، ولكن غياب الوحدة، “لقد أدركت أن الوضع في أفغانستان يتطلب نوعاً من المقاتلين الذين يتمتعون بقدر عالٍ من الثقافة، ويمكنهم تقديم التعليم والمساعدات الإنسانية والنصائح الدينية، فضلاً عن المساعدة العسكرية. فقد كانت الديبلوماسية والحنكة السياسية، بأهمية جعل السوفيات يتجرعون آلام رصاص بنادق الكلاشنيكوف. بيد أننا لم نمتلك أياً من تلك الأشياء” (ص. 55). وفي هذا الصدد، وفي مواضع أخرى عدة، يغفل المؤلف عن المخاطر والتشوهات الهيكلية المرتبطة بوجود مجموعات مسلحة مسؤولة عن القيام بأعمال الإغاثة أو التعليم. ولكن الأهم في هذا الاقتباس هو عدم وجود المتطوعين العرب الذين يتمتعون بالحنكة السياسية، وهي مشكلة بدأت منذ اليوم الأول لنشأة الحركة، ودفعتهم بعيداً إلى جبال آسيا الوسطى. وقد ابتليت الحركات الإسلامية المتطرفة منذ ذلك الحين بهذه المشكلة، التي تتمثل في عدم القدرة على قراءة الأخبار وفهم توازن القوى والنتيجة النهائية التي تصبو إليها الصراعات المسلحة.

عبدالله عزام

منذ بدايتها، كانت الحركة الإسلامية تُدمر نفسها ذاتياً. فلم يكن أعداؤها الروس هم من قتلوا بطليه ومثليه في الجهاد والمقاومة، وإنما قتلهما إسلاميون متطرفون كان يفترض أنهم أتوا إلى أفغانستان لدعم الشعب الأفغاني. فقد قُتل أحمد شاه مسعود، بطل المقاومة ضد السوفيات، على يد جهاديين تونسيين-بلجيكيين أرسلهما أسامة بن لادن، حيث تنكرا في هيئة صحافيين، وفجرا مواد متفجرة، كانت مخبأة في كاميرات التصوير التلفزيونية التي يحملونها. أودى ذلك بحياة القائد الأفغاني يوم 9 أيلول/ سبتمبر من عام 2001، أيّ قبل يومين فقط من هجمات 11 أيلول. وقبل 12 عاماً من تلك الواقعة، تحديداً في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1989، قُتل عزام نفسه الملقب بـ”الرائد الروحي للجهاد الأفغاني” (ص. 204)، مع اثنين من أبنائه وهو في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، جراء انفجار قنبلة زُرعت على جانب الطريق. لا يتهم الكاتب القاعدة مباشرة أو غيرها من الجماعات الجهادية بارتكاب تلك الجريمة، لكنه يصف حملة تشهير أطلقت شرارتها جماعات تكفيرية عام 1988، والتي اتهمت عزام بأنه “عميل” وبانحيازه إلى مسعود (في حين انحاز معظم العرب في بيشاور إلى حكمتيار)، ممهدة بذلك الأجواء المواتية لاغتياله.

خلال محاولاته الرامية إلى النأي بعزام عن العنف السلفي الجهادي الذي أتى تالياً، يرسم أنس صورة لعزام باعتباره شخصاً نبيلاً وخلوقاً لكنه أيضاً في منتهى الطيبة والسذاجة. كان عزام “مرجعاً دينياً” على عكس بن لادن والظواهري اللذَين لم ينالا أيّ تعليم ديني (ص. 261). صحيح أيضاً أن عزام لم يرغب إطلاقاً في تكوين قوات عسكرية عربية مستقلة عن الأفغان، بل كانت غايته هي أن تكون في خدمة الشعوب التي تعاني تحت وطأة الاحتلال الأجنبي. مع ذلك، أخفق الكتاب في إبراز العلاقة بين الجيل الأول من العرب الأفغان ونقاط ضعفهم وتناقضاتهم، التي ساهمت في خلق الظروف الملائمة لبزوغ القاعدة وتنظيم الدولة “داعش”. أزعم أنه من خلال جعل الجهاد مسؤولية شخصية تقع على عاتق كل مسلم، مهد عزام الطريق لإرساء فكرة الجهاد بلا قيادة، والتي لا تقوض السلطة السياسية فحسب، بل والقيم الدينية أيضاً، من خلال جعل المشاركة في الحرب واجباً شخصياً مقدساً وليس إلزاماً سياسياً أو جماعياً. كتب أنس بسذاجة أن عزام، “لم يطرح قط أفكاراً سياسية بخصوص الشباب حديثي العهد في الجهاد، الذين جاءوا للمشاركة في القتال بأفغانستان” (ص. 180). كما أنه من خلال إرسال الشباب العربي إلى بلد أجنبي -آسيا الوسطى- لا يفهم العرب اللغات المحلية فيها، ولا يعرفون شيئاً عن تاريخها أو دينها وتقاليدها، فقد فصل عزام الجهاد عن السياسة، مساعداً بذلك في تهيئة الأجواء المثالية لظهور عقيدة تكفيرية عدمية.

مشروع عزام…

يقع هذا الفصل بين دواعي شن الحرب والسياقات السياسية القائمة في صميم مشروع عزام الجهادي. لماذا تخلى عزام -الفلسطيني- عن الفدائيين الفلسطينيين المقاومين للعدوان الإسرائيلي في صيف عام 1982، عندما حوصر ياسر عرفات ورفاقه في بيروت، واختار الجهاد في بلدٍ لم يستطع فهمه؟ وجهتُ هذا السؤال لأنس شخصياً منذ سنوات، ووجهته أيضاً لأشخاص آخرين كانوا مقربين منه، لكنني لم أتلقَّ جواباً منطقياً مفيداً أبداً، لأنه لا وجود من الأساس لمثل هذا الجواب. فقد ذهب عزام إلى أفغانستان لقتال قوة عظمى قامت بتسليح الفدائيين الفلسطينيين في لبنان -ألا وهي: الاتحاد السوفياتي- كما ساعد القوى العظمى الأخرى -متمثلة في الولايات المتحدة الأميركية- التي ساندت إسرائيل: عدوة الشعب الفلسطيني. هل من هراء سياسي أكثر من ذلك؟ من المفارقة، أنه من خلال دعوته للجهاد في وجه السوفيات في أفغانستان، نقل عزام ثقافة حرب العصابات الفلسطينية إلى آسيا الوسطى، عازلاً إياها عن سياسة الشرق الأوسط ومقوضاً لمكانة القضية الفلسطينية في السياسة العربية.

في أواخر الثمانينات، وبسبب استماعهم إلى نداء عزام بالانضمام إلى قوافل الجهاد، ذهب مئات الشباب العرب للمشاركة في حربٍ ليست لديهم أدنى فكرة عنها. وكانت النتيجة النهائية هي كارثة ما زال شبحها يخيم علينا جميعاً.

المصدر: درج ٢٤ حزيران/ يونيو ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا