الأسد يعبّد طريق طهران للمتوسط…حرفياً

عبد الناصر العايد

تطنب وسائل اعلام مقربة من دولة عربية، في الحديث عن “تراجع” العلاقات بين نظام الأسد وطهران، وتحوّل نظر الأسد إلى الحضن العربي لموازنة علاقته المختلة بنظام الولي الفقيه. وتلمح التقارير المتتالية إلى ما يشبه الفرصة السانحة التي يتوجب على العرب انتهازها لانتشال سوريا من مخالب إيران، وهو ما قد يشير إلى تمهيد من طرف دولة أو أكثر لانعطافة نحو النظام وتبريرها مسبقاً، أو إلى وجود لوبي يحاول أن يدفع بقيادة بعض الدول العربية في هذا الطريق بحجج وذرائع يمكن للمرء أن يكتشف بسهولة زيفها، وأنها تستند إلى وقائع مختلقة وغير صحيحة.

والنصوص والمقالات المدبجة في هذا الإطار، لا تتضمن سوى تصريحات لمصادر غامضة رفضت الكشف عن نفسها، ولا تتحدث سوى لوسائل الإعلام إياها، أو تستند إلى شهادات مراقبين مجهولين، آخرهم في “البادية السورية”! أخبروها بمعطيات خطيرة، في أسلوب ولغة لا يخفى أنهما من أدوات أجهزة المخابرات. وترتكز الدعاية الموجهة تلك، إلى حجة وحيدة لإثبات فرضيتها، وهي تخلّي طهران عن نظام الأسد وعدم دعمه بالمحروقات والمشتقات النفطية في هذا الشتاء القارس، الأمر الذي صار يهدد بشَلل “الدولة” وانهيارها، وأن ذلك يأتي في سياق ضغط طهران وانتقامها من الأسد الذي لا ينصاع إليها ويحاول الحفاظ على استقلاله، لكنه، للأسف، لا يحظى بدعم أشقائه العرب، ليتمكن من الوقوف في وجه إيران ومخططاتها للهيمنة على المنطقة.

المفارقة، أنك تجد في وسائل الإعلام هذه ذاتها، كثافة من الأخبار التي تتحدث عن أزمة الوقود في إيران ذاتها في هذه الفترة، وعن وصول باخرة نفط إيرانية إلى الموانئ السورية، من دون أي ربط بين القضيتين، وكأن هذه ليست مؤشرات ولا علامات مثل تلك التي تتصيدها هذه الجهات الإعلامية وتضخمها عشرات المرات لتوكيد وجهة نظرها.

والحقيقة في ما يخص مسألة النفط، تكمن في أزمة إيران النفطية ذاتها، وهذه يمكننا أن نطالعها في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، التي لم تتوان عن الحديث عن ذلك منذ أسابيع عديدة، ومنها صحيفة “اعتماد” المعروفة، والتي نشرت تقريراً مطولاً تتحدث فيه بالأرقام عن الأزمة التي تسبب فيها إغلاق تركمنستان لخطوط الغاز المتجهة إلى إيران، وتعطُّل أكثر من خمسين معمل للأسمنت ومنشآت صناعية أخرى عديدة، وفق الصحيفة، فيما يعاني السكان نقصاً كبيراً في وقود التدفئة، دفعهم إلى الوقوف في طوابير طويلة عند محطات الوقود. وترجع الأزمة في هذا البلد النفطي، وفق الإعلام الإيراني، إلى العجز الكبير في قطاع الغاز، والذي يحتاج إلى تقنيات حديثة تفتقر إليها طهران بسبب العقوبات الغربية وأموال غير متوافرة لإنعاشه، تبلغ وفق “اعتماد” أكثر 80 مليار دولار.

فالمسألة اذن تتعلق بنقص الغاز في إيران الذي يتم تعويضه من المشتقات النفطية الأخرى. وإذا كانت إيران تتألم من هذه الناحية، فمن الطبيعي أن يُسمع الصراخ في دمشق، لكن مع ذلك، وعلى الرغم من أزمتها، أرسلت طهران في الأسبوع الفائت وحده، ثلاث ناقلات محملة بالنفط والغاز لنظام الأسد، الذي يُعدّ منذ عشر سنوات الوجهة الثانية للنفط الإيراني بعد الصين، وفق تصريحات للمعارضة الإيرانية.

والجديد في الدعاية الفجة، عن تباعد نظام الأسد وإيران، هو تقارير غير منسوبة لأي جهة يمكن التحقق منها، حول مبادرة النظام إلى قطع طريق طهران إلى البحر المتوسط، من خلال انتزاع جزء من ذلك الطريق من المليشيات الإيرانية، والسيطرة عليه بقوات تابعة له. ونُقلت أخبار عن مراقبين في البادية السورية، وصفت الحدث بأنه دليل على تقويض النظام لحلم طهران بطريق بري يربطها بالمتوسط. ومن دون الإغراق في الجدل وعرض المعلومات المعتمدة على مصادر خاصة أو منحازة، يمكن للمرء أن يذهب ببساطة إلى موقع وكالة إعلام النظام الرسمية “سانا “، وهناك سيجد خبراً بارزاً عن إجراء رئيس مجلس وزراء النظام، حسين عرنوس، زيارة إلى البوكمال الحدودية، وهي رأس الطريق الإيراني إلى المتوسط، حيث أمر وعلى نحو فوري بصيانة الطريق الدولي من معبر البوكمال إلى مدينة الميادين، وهو الطريق الذي تستخدمه إيران ومليشياتها في العبور إلى محافظة دير الزور، ومنها تستكمل طريقها إلى حمص عبر الطريق الصحراوي، وصولاً إلى اللاذقية ودمشق ولبنان. فنظام الأسد يعبّد، حرفياً، طريق إيران إلى المتوسط، لا يقوضها.

إن السوريين ليسوا في موقع مَن يُملي المواقف على الأشقاء العرب، بل أن المعارضة الرسمية مُدانة بسبب جفائها مع هؤلاء العرب، وارتمائها في الحضن التركي على نحو يماثل ارتماء النظام في الحضن الإيراني. لكن هذا لا يمنع من تحذير الأشقاء العرب من الوقوع في الخداع الذاتي، أو في حيل وأحابيل النظام الذي لطالما كذب ودلس عليهم في أبسط القضايا. فهل يصدقونه وهو يدعي أنه قلب ظهر المجنّ لطهران التي تمده منذ عشر سنوات بأكسير الحياة، بعدما أنقذته من سقوط محتم؟

لعل الأجدر بمَن يصدق هذه المزاعم، من المسؤولين العرب، أن يزور الجامع الأموي أو سوق الحميدية في قلب دمشق القديمة أو ضاحية السيدة زينب، وأن يرى بعينيه مقدار السطوة والتغلغل الإيراني في سوريا، والذي لم يكن مستطاعاً سوى بدفعٍ كاملٍ من القوى القمعية للنظام وأجهزته، وضغطها على المجتمع السوري الذي يرفض بشكل قطعي ولأسباب معروفة للجميع، الهيمنة الإيرانية عليه. هذا من دون أن ندخل في خريطة الانتشار العسكري الإيراني الكثيف من أقصى الشرق إلى البحر المتوسط، ومن درعا إلى حلب.

في عود على بدء، لا يحق لنا أن نلوم العرب الذين لا بد أن تكون لهم كلمة في الشأن السوري. فالمعارضة الرسمية أصبحت مجرد جهاز وظيفي، ملحق بجهاز المخابرات الخارجية التركي، وهي تغرد بعيداً جداً من السرب العربي الذي كان السبّاق لاحتضانها، لكن المعارضة السورية ليست مجرد ائتلاف أو حكومة مؤقتة أو غيرها من المؤسسات الرسمية. ثمة معارضة وطنية ما زالت حرة، لكنها بليدة وقواها خائرة وخيالها مُجهض، ولا تعي أصلاً أنها قوية بما فيه الكفاية لتغيير اتجاهات الحدث السوري فيما لو بادرت وتحركت وغادرت عادتها البائسة بتسقُّط الأخبار و”الإشارات” وتحليلها والتكهن بأسبابها ونتائجها في غرف الواتسآب المغلقة. فقد آن للمعارضة الوطنية السورية أن تتقدم، وأن تصبح لاعباً سياسياً، ومن العمق العربي بالذات، ومن بوابة مناهضة المشروع الإيراني الإمبراطوري، وإلا ستسقط بلادهم بشكل كامل في قبضة الإيرانيين، الذين سيصبح هدفهم لليوم التالي هو الدول العربية الساعية اليوم في طريق التطبيع مع نظام.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا