الثورة المنكوبة

جسر: متابعات:

رسمت نكبة فلسطين مستقبل المنطقة العربية، عبر اتجاهين: الأول هو أنها حوّلت رغبة الشعوب العربية في التحرر وفرحتها بالاستقلال عن المستعمر الخارجي، إلى جثة هامدة، قام العسكر بتشييعها وقيادة جنازتها، حيث إن نكبة فلسطين كانت هي الرافعة الأهم لصعود العسكر إلى واجهة السلطة، في كل من سورية ومصر والعراق، ثم بقية الدول غير الملكية أو التي سُميت “جمهوريات” في العالم العربي.

وبصعود العسكر؛ أُطلقت الرصاصة الأولى والحاسمة على مشروع الدولة الوطنية، حيث تماهت الدولة بالسلطة الحاكمة، وبات العنصر المُحدد لوطنية وهوية الداخل هو عدو الخارج، وليس حق المواطن ومشاركته في مصيره، وشرعية السلطة السياسية هي انقلابها العسكري “الثوري”، وشرعية انقلابها الثوري تقوم على وجود العدو الخارجي مرة أخرى، لا على شرعية الحياة السياسية ضمن المجتمع، ولا على فصل السلطات الثلاث عن بعضها، ولا على الانتخابات الديمقراطية.

الاتجاه الثاني الذي رسمته النكبة يخصّ شعب فلسطين ودولته، حيث تم تهجير وتشريد هذا الشعب من دون أمل بالعودة، وتم احتلال أرضه وزراعتها بالمحتلين، وسُحقت حقوقه بأقدام السُلط العسكرية للبلاد العربية المجاورة، بعدما سحقها المُحتل ذاته، عوضًا من تضييع وتمييع تلك الحقوق في بازار مجتمع الأقوياء الدولي. أما الدولة فبات اسمها المعترف به “إسرائيل”، مع جيوب فلسطينية ما زالت تسمّى دولة أو سلطة، لكن مع اعتراف عالمي هزيل، ومن دون تحقيق أي شرط من شروط الدولة.

تحولت الثورة السورية إلى نكبة ثانية، وترسم النكبة السورية اليوم مستقبل سورية والمنطقة العربية على إيقاع النكبة القديمة ومسارها، فأبناء العسكر الذين حوّلوا مسار الاستقلال الأول إلى احتلال، هم أنفسهم من حول مسار الشعب وتوقه للاستقلال الثاني إلى نكبة جديدة، وبدل الخلاص من الاحتلال الأول الذي مثّلته “إسرائيل”، استقدم أبناء العسكر احتلالات جديدة لتتراكب فوق الاحتلال القديم وتعزز بقاءه المؤبد.

مثل النكبة الفلسطينية، غيّرت النكبة السورية حياة السوريين إلى الأبد، شرّدتهم في جميع أصقاع العالم، ووضعت الملايين منهم تحت رحمة وتنكيل الدول المجاورة التي باتت تتاجر بأعمارهم وحيواتهم وحقوقهم، مثلما كانت تفعل الدول العربية مع الفلسطينيين، ومثلما كانت القضية الفلسطينية رافعة لدكتاتورية العسكر وأداة لابتزاز الشعوب التي حكموها، كذلك تتشكل القضية السورية كرافعة لدكتاتورية الأنظمة المجاورة لسورية، وأداة لابتزاز تلك الشعوب، وتهديدها الصريح والضمني بالمصير السوري.

تحولت الثورة السورية إلى ثورة منكوبة، منكوبة بإسلامييها الذين فارقوا الثورة منذ البداية، طمعًا بتكوين دولة أسدية/ سنيّة تحت مسمى “دولة الخلافة”، ويمضي من تبقى منهم اليوم نحو تحويل إدلب إلى غزة، ومنكوبة بمعارضتها التي تعمل بقانون الانتخاب الطبيعي معكوسًا، حيث البقاء للأسوأ، ومنكوبة بعدِّوها الذي أشرف على تحولاتها وحطامها، عبر دعم دولي لم يحظ به نظام في العالم من قبلُ، باستثناء “إسرائيل”، صانعة النكبة الأولى.

لكيلا نتوقف عند حدود التشابه والقياس التاريخي، فإن النكبة السورية تبتلع وتتجاوز نكبة فلسطين من جهة، لكنها تعطي آمالًا أخرى ضئيلة، قد تتحول إلى آفاق مسدودة إن لم يقم السوريون بأي فعل لتغييرها.

على عكس الشائع في أوساط الموالاة والمعارضة، نرى في هذه العجالة أن لدينا ثلاثة احتلالات رئيسة في سورية، قد تغيّر وجه سورية ديموغرافيًا إلى الأبد، وتجعل من نكبتها دائمة في المستقبل، ما يعني عدم عودة المهجرين إطلاقًا إلى أرضهم وبيوتهم، مثلما حصل في فلسطين.

الاحتلال الأول ثابت وقديم، ولا يمكن تغييره في المستقبل القريب، ولا هو من أولويات الشعب السوري في مرحلته الراهنة، وهو الاحتلال الإسرائيلي للجولان. أما الاحتلالان الآخران فهما لا يزالان قيد الصناعة، وبالتالي هناك أملٌ، وإن كان ضئيلًا، بتغيير نتائجهما. وهما إيران وتركيا!

أولًا، نقول إيران وتركيا، وليس أميركا أو روسيا أو النظام أو (جبهة النصرة) أو (قسد) أو (حزب الله) للأسباب التالية: ليس لأميركا رغبة ولا قدرة على البقاء بشريًا في سورية في المستقبل، ووجودها الوظيفي في شرق الفرات هو لحماية الأكراد وبعض العرب الذين ينفذون مهمتي محاربة الإرهاب، ومنع إيران من إكمال مشروعها البري والبشري من طهران إلى بيروت عبر العراق، وبالتالي الوصول المفتوح إلى “إسرائيل”.

كما أن الاحتلال الروسي، مثل الأميركي، ليس استيطانيًا بشريًا بل وظيفيًا، حيث إن روسيا تقوم بتشغيل النظام عندها لتنفيذ مصالحها الاستراتيجية، ولكن ليس في أجندتها تغيير الديموغرافية السورية، وقد تستغني عن النظام في أي وقت تراه عائقًا أمام مصالحها في المستقبل، وتستطيع ذلك ببساطة، بعد أن تغلغلت في العمق الأمني والعسكري للنظام.

النظام والإسلاميون والأكراد و(حزب الله) هم عمّال عند القوى الخارجية، وليسوا أصحاب قرارات، فقرار التقدم أو التراجع، السيطرة أو التحرير أو الحرب أو الهدنة أو السلم، ليس في يدهم، بل في أيدي القوى التي تشغّلهم. لكن الأمر يختلف تمامًا مع الاحتلالين الإيراني والتركي، فتركيا تريد الخلاص من أزمتي اللجوء والأكراد دفعة واحدة، عبر السيطرة على مناطق شمال وشمال شرق سورية، وزرعها باللاجئين المهجّرين إلى أرضها، ونصب حاجز عربي – سنّي على طول حدودها مع الأكراد، وقد يكون هذا حلًا مناسبًا لجميع الأطراف الدولية الفاعلة، ما عدا السوريين أنفسهم، الذي لن يحلموا بعدها بالعودة إلى ديارهم في باقي المحافظات السورية.

أما إيران، فالتغيير الديموغرافي والتهجير المنظم الذي تشرف عليه منذ البداية، لا يخفى على أحد، كما أن احتلالها العسكري الذي يشرف عليه الحرس الثوري الإيراني، عبر الميليشيات الشيعية المتنوعة، وعلى رأسها ميليشيا “حزب الله” اللبناني، يُضاف إلى تغلغلها الاجتماعي في قلب مناطق النظام، ولا سيّما العاصمة دمشق ومحيطها وريفها، وهو محاولة ما زالت ناجحة في تنصيب الشيعة العرب كرأس حربة لمشروعها الاستيطاني والاستراتيجي في المنطقة.

العبرة في الاحتلالين التركي والإيراني أنهما يُغيّران مستقبل سورية جذريًا، عبر تثبيت واقع التفكك السنّي/ الشيعي، وإدامته على الأرض تحت سيطرتهما، فإيران لا تحتل العراق اليوم عبر نقل إيرانيين إلى العراق، كما فعلت “إسرائيل” في فلسطين مثلًا، بل عبر العراقيين أنفسهم، وكذلك الأمر في اليمن أو في لبنان. وهذا ينطبق على ما تفعله تركيا في الشمال السوري.

إن التغيير الذي أحدثته إيران، في لبنان أو العراق أو اليمن، ليس تغييرًا طارئًا، بل هو تغيير لا رجعة عنه في تلك الدول، وهو يربط مصير تلك الدول كاملًا بالمصير الإيراني ذاته، ولا يبدو أن ما تفعله تركيا في الشمال السوري أقلّ خطورة على مصير السوريين، مما فعله الشريك الإيراني.

لقد انتهت الثورة السورية إلى نكبة، لكن النكبة السورية التي تحصل أمام أعيننا، وأمام أعين العالم وإشرافه اليوم، ليست خارج إرادتنا بالمطلق بعد، فعلى الرغم من ضعف الأمل وشدة العجز وخروج المصير السوري من أيدي جميع السوريين، وعلى الرغم من صعوبة تغيير السلوك السياسي للنظام الذي سبب النكبة، فإن مقاومة المشاركة الفاعلة التي تقوم بها المعارضة، عبر خضوعها المطلق لتركيا، ما زالت ممكنة، بل واجبة.

جيرون 2 أيلول/سبتمبر 2019

قد يعجبك ايضا