الجزيرة السورية بين مطرقة “القاعدة” وسندان “الكردستاني”

أيمن الأحمد

مع صمود الهدنة بين الجماعات المتقاتلة في مدينة رأس العين بالحسكة، والتي وضعت حداً للأحداث الدامية في هذه المنطقة شديدة الحساسية والتعقيد.
برزت أحداث وتداعيات في منطقة الجزيرة السورية، والتي تشكل محافظة الحسكة المساحة الأكبر منها تمثلت هذه الأحداث بسيطرة جبهة النصرة “المتشددة” والمرتبطة بالقاعدة على حقول الجبسة النفطية جنوب مدينة الحسكة، وسيطرة قوات حزب العمال الكردستاني على حقول الرميلان الاستراتيجية شمال شرق الحسكة.
حدثان نوعيان كانا من أبرز تداعيات الصدام في رأس العين لناحية سيطرة الجماعتين على مواقع إستراتيجية بهذه الأهمية ولناحية ،لربما، اتفاق غير معلن على تقاسم جغرافية النفوذ في أغنى المناطق السورية بعيداً عن التصادم فيما بينهما.
فحقل رميلان يضم 1250 بئر، ويبلغ إنتاجه 164 ألف برميل يومياً أي حوالي 42% من إنتاج القطر للنفط، أما حقل الجبسة فيضم 1287 بئر نفطي وغازي تنتج ما يقارب29000 برميل يومياً.
لذلك فإن وضع اليد من قبل المجموعتين على أكبر حقول النفط في سورية، سيوفر لهما تمويلاً ضخماً لم تحلم به أي جماعة متشددة في العالم.
لكن الأمر لم يكن عبثياً أو جرى بمحض الصدفة، ولم يكن التصادم في رأس العين بين المجوعتين إلا سبباً من عدة أسباب كان في مقدمتها التهميش الاقتصادي، وغياب التنمية والقمع الذي مارسته السلطة الحاكمة.
تلك السيطرة السريعة على منطقة إستراتيجية هامة، لم يكن لها أن تكون لولا التفريغ الذي جرى للحسكة من أي مشروع سياسي أو تنموي أو ثقافي وطني خلال العقود الماضية، مما جعل منها ضحية اختيار صعب في لحظة تاريخية مأزومة للجزيرة السورية مابين التشدد الديني الذي تمثله القاعدة “النصرة” والتشدد القومي الذي يمثله “الكردستاني”. لذلك يبدو أن ارتباكاً ما قد حصل في خيارات الجزيرة السورية بطريقة تعبيرها عن هويتها السورية.
وبالرغم من موقع الحسكة الاستراتيجي كونها تحاذي دولتين هما العراق وتركيا، شديدتا التأثير في الشأن السوري، إضافة إلى كونها أولى المحافظات دعماً للخزينة العامة، وهي ثالث أكبر المحافظات من حيث المساحة، لم يمنح كل ذلك “البقرة الحلوب”، هكذا تسمى بسبب غناها الزراعي والنفطي، أي ميزة لدى العسكر المتعاقبين على إدارة شؤونها أو حلبها، بل عانت أكثر من غيرها تهميشاً وفقراً، وظلت بقرة حلوب حتى نزف ضرعها قبل أن ينزف أي جزء آخر من الوطن، فصارت صيداً سهلاً لسكاكين التشدد الديني والقومي.
فالمناطق الشمالية الغنية بالنفط والزراعة والمحاذية للحدود التركية والتي تسكنها غالبية أكراد الحسكة، عانت من قمع سياسي بدأ منذ عام 1958 مع وصول جمال عبد الناصر إلى حكم سورية، وما تلا تلك الفترة من حرمان الأكراد من حقوقهم السياسية والثقافية، وبروز مشكلة عديمي الجنسية، ما شكل منصة لربط المنطقة بمشاريع خارج الوطن، وأدى إلى انقسام في تركيبة المجتمع الأمر الذي خلق فرصة لغنى الضباط القادمين من المناطق الداخلية.
أما المنطقة الجنوبية والغنية بالنفط والبطالة والمحاذية للحدود العراقية والممتدة من مدينة الحسكة وصولاً إلى دير الزور، فقد تعرضت للتهميش على المستوى التنموي والسياسي، وبسب قربها من الحدود العراقية وطبيعتها العشائرية كانت التهم جاهزة لأهل المنطقة من قبل النظام، بأنهم “صداميون” متعاطفون مع النظام العراقي السابق، لذلك حرمت المنطقة من أي مشاريع تنموية حقيقية حتى مشاريع النفط لم يستفد منها أهل المنطقة، لأن السلطة كانت تستجلب موظفيها وعمالها من المناطق الداخلية في سورية، ويمكن اختصار واقع المنطقة بمشهد متكرر في كل الريف الجنوبي مشهد مئات آبار النفط بين قرى معدومة من أي مقومات إنسانية.
ولم تنتهي مشكلة المنطقة الجنوبية بسقوط النظام العراقي، بل بدأت مشكلة خطيرة في العقد الأخير هددت هويتها المذهبية، فقد زادت نسبة التشيع فيها مقابل المال ما طرح الكثير من الأسئلة عن الهدف من تغيير الهوية المذهبية في منطقة مرتبكة أصلاً دينياً وعرقياً وطائفياً، لتنتشر في السر بفعل القمع ألامني مقولة “التجويع من أجل التشييع”.
لكن انقلاباً درامياً ومضاداً جرى في الفترة القليلة الماضية لم يكن في الحسبان، فبدلاً من التشيع وتغيير هوية المنطقة الجنوبية مذهبياً، والذي كان يظن أن المنطقة صبغت به، حصل استقطاب حاد نحو جماعة النصرة المتشددة، وبدلاً من تحرك الأحزاب الكردية السورية التقليدية أو تنظيمات الشباب الكرد، خطف حزب العمال الكردستاني الانفصالي المتشدد المنطقة الشمالية بكل ثرواتها وأهميتها الإستراتيجية وبسط نفوذاً سياسياً وعسكرياً واضحاً عليها.
لترتب صورة الجزيرة السورية على الشكل التالي: من الشمال تم إزالة العلم السوري ورفع علم حزب العمال الكردستاني، دون المساس بصورة الأسد الأب أو الابن مع إضافة صورة جديدة وكبيرة لا تمت لتاريخ ولا لحاضر ولا لنضال السوريين هي صورة “عبد الله أوجلان”. بالمقابل تم نزع صورة الأسد الأب والابن في جنوب الحسكة، وقتل كل من ينتمي إلى طائفته، ورفع علم لا يمثل حلم السوريين بالتغير والديمقراطية مكان العلم السوري، وإقامة سجن حل محل مسجد شيعي.
السوريون في الجزيرة “من عرب وأكراد وأشوريين وسريان وتركمان ويزيديين وشركس وكلدان وشيشان وأرمن” تعايشوا بسلام منذ مئات السنين، ولم تحصل بينهم أية مصادمات عرقية أو دينية حادة.
إن استدعاء المقدس “المقموع” الديني أو القومي، قد يفهم بسبب الاضطهاد القومي الطويل، والمساس بالهوية الدينية، لكن تبدو الخطورة الأكبر في أن كلا المرجعيتين الدينية والقومية خارج حدود الوطن السوري

قد يعجبك ايضا