الدور الكردي في لعبة القوة الروسية في الشرق الأوسط

آنا بورشفسكايا*

إن التعاون الكردي مع روسيا مفهوم، لأن أي مجتمع في وضع الأكراد سيطلب أي دعم خارجي يمكنه الحصول عليه. وكما قال مصطفى بارزاني ذات مرة: “أنا مثل المتسول الأعمى… لا أبالي بمن يضع المال في يدي”.

جسر: قضايا:

في تموز (يوليو)، استأنفت روسيا سعيها لإشراك الأكراد من شمال وشرق سورية على طاولة المفاوضات مع حكومة بشار الأسد، حتى عندما دعمت النظام في الوقت نفسه من خلال تخفيف قرار الأمم المتحدة بشأن المساعدة الإنسانية عبر الحدود إلى هذين الجزأين من البلاد. وبالمثل، ظلت علاقة موسكو مع الأكراد العراقيين قوية حتى عندما يعطي الكرملين الضوء الأخضر للجيش التركي لشنّ عمليات ضدّ الأكراد السوريين في الدولة المجاورة -وهي العمليات التي تتوسع بشكل متزايد في إقليم كردستان العراق، وتجعل مسؤولي الإقليم أكثر توتراً وانقساماً يوماً بعد آخر.
وفي داخل روسيا، يتحدث كبار المسؤولين والمحللين باستمرار عن أهمية الأكراد و”القضية الكردية” في المنطقة. وبغض النظر عن المصالح الحقيقية الكامنة وراء هذه المشاعر، ستواصل موسكو الاستفادة من علاقتها العميقة متعددة الأوجه مع مختلف الجماعات الكردية طالما استمرت الصراعات حول قضيتهم -ليس لتعزيز مكانتها في المنطقة فقط، وإنما أيضاً لجر الأكراد بعيداً عن الولايات المتحدة.
روابط طويلة الأمد
لم تقم أي دولة بتوفير رعاية للأكراد طالما تتولى روسيا تقديمها. ويعود تاريخ هذه الروابط بين الأكراد وروسيا إلى عهد كاثرين العظمى حين تصادمت روسيا الإمبريالية مع الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، وواجهت قبائل كردية بدوية، وحولت الأكراد الإيزيديين إلى أتباع لها خلال الغزوات في القوقاز. وكان القادة الروس ينظرون إلى الأكراد بشكل متزايد على أنهم وسيلة ضغط ضد المنافسين العثمانيين والفرس، في حين اعتبر الأكراد الإمبراطورية الروسية بمثابة الراعي الرئيسي لهم، ولا سيما في أوائل القرن العشرين.
في أعقاب الثورة البولشفية، استغلت موسكو بانتظام قضايا الهوية العرقية باستخدامها ما سمّي بـ”حركات التحرر” للتحريض على التمرد في إيران والعراق وتركيا، من خلال التعاون الوثيق مع الأكراد المحليين في كل قضية على حدة. وفي العام 1923، أنشأت السلطات السوفياتية “جمهورية كردستان الحمراء”، وهي منطقة كردية ذات حكم ذاتي قصيرة الأجل في أذربيجان.
ولم يسلم الأكراد من “الإرهاب العظيم” الذي مارسه جوزف ستالين، ومع ذلك ظلوا يشغلون حيزاً كبيراً من تفكير القيادة السوفياتية. وبالتالي، في العام 1946، دعمت موسكو مجموعة من الأكراد الذين أعلنوا قيام “جمهورية مهاباد” في شمال إيران. وبعد سقوط الجمهورية بحلول نهاية ذلك العام، لجأ الزعيم الكردي العراقي، مصطفى بارزاني، الجنرال في جيش مهاباد ومؤسس “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، إلى الاتحاد السوفياتي مع رفاقه حيث بقي أكثر من عقد من الزمن. وفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، دعم الكرملين الحكم الذاتي الكردي في العراق للتضييق على بغداد، وأسهمت ضغوطه في التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد للعام 1970.
وفي أواخر السبعينيات، عندما كانت سورية دولة عميلة للسوفيات، بدأ “حزب العمال الكردستاني” بزعامة عبد الله أوجلان حملة تمرد طويلة ضد تركيا، جرى في إطارها أحياناً تنفيذ بعض العمليات من وادي البقاع اللبناني الذي كانت تحتله سورية، من بين مواقع أخرى. وعزّز حزب العمال الكردستاني موقعه في فلك موسكو على مر السنين، ومنحت معارضته المسلحة للحكومة التركية القادة الروس نفوذاً مفيداً على أنقرة، وبالتالي على حلف “الناتو”. وواصل الكرملين استخدام هذه الورقة الرابحة الكردية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ما سمح لحزب العمال الكردستاني بفتح مكتب تمثيلي له في موسكو ومنْح أوجلان ملجأ بعد طرده من سورية في العام 1998. ووفقاً لصحيفة “موسكو تايمز”، كان ما يصل إلى 200.000 كردي يعيشون في منطقة موسكو بحلول العام 1999، كما انتشر حوالي مليون كردي في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق.

 

سياسة روسيا الحالية تجاه الأكراد
غالباً ما يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكبار المسؤولين الآخرين علاقة روسيا التاريخية الخاصة بالشعب الكردي، مشيدين بشجاعتهم في مواجهة “المصير الصعب” وفعاليتهم في مكافحة الإرهاب. حتى أن بعض الأكراد أدوا دوراً رسمياً في سياسة روسيا في الشرق الأوسط -وفقاً لمجلة “فوربس”، رافق عضو الدوما الكردي الإيزيدي زليمخان موتسويف “القوافل الإنسانية في بغداد وكردستان قبل بدء العملية العسكرية في سورية”.
لكن إبعاد الأكراد عن واشنطن هو في حقيقة الأمر الدافع الرئيسي لسياسات روسيا الداعمة لهم. ففي أواخر العام الماضي، على سبيل المثال، ادّعى وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن المسؤولين الأميركيين كانوا يمنعون الحوار بين الأكراد السوريين ودمشق. كما حذر الأكراد من المراهنة على الولايات المتحدة لأن قواتها كانت متواجدة في سورية “بصورة غير قانونية”، على عكس القوات الروسية. وأعرب بوتين عن مشاعر مماثلة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بقوله: “ما تم تحقيقه الآن على حدود سورية وتركيا يتم أيضاً بدعم الأكراد ويصب في مصالحهم… الناس يرون ويفهمون أن الجيش الروسي جاء لحمايتهم”.
بصرف النظر عن استخدام هذه القضية هراوة ضد واشنطن، فإن موسكو متأرجحة إلى حد كبير بشأن تقرير المصير الكردي. وعند رده على سؤال حول الحكم الذاتي الكردي العراقي في كانون الأول (ديسمبر) 2016، قال بوتين: “نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية (العراقية)”. وبطبيعة الحال، ليس لدى موسكو هواجس حول التدخل في بعض البلدان عندما يناسب ذلك مصالحها. وفي هذه الحالة، تفضل ببساطة البقاء خارج هذه القضية.
ولكن، حتى سياسة متناقضة من هذا النوع أتت ثمارها مع الأكراد. فعندما أجرى إقليم كردستان العراق استفتاءً حول الاستقلال في أيلول (سبتمبر) 2017، اتخذت روسيا موقفاً محايداً بشأن هذه الخطوة في حين عارضتها رسمياً الولايات المتحدة وكل جهة فاعلة أجنبية أخرى تقريباً. ووسط ردود الفعل السلبية الدولية التي سبقت الاستفتاء وأعقبته، اكتسبت موسكو مرونة أكبر من خلال إطلاقها مشاريع طاقة إضافية في إقليم كردستان الذي كان بأمس الحاجة إلى الأموال النقدية؛ حيث وضعت نفسها في النهاية في مركز تُعد فيه أفضل جهة فاعلة في مجال النفط والغاز الطبيعي في المنطقة.
وفي شباط (فبراير) 2017، على سبيل المثال، قدمت عملاقة الطاقة الروسية “روسنفت” قرضاً لإقليم كردستان العراق بلغت قيمته 3.5 مليار دولار، ووقّعت عقوداً لتطوير خمس كتل لإنتاج النفط، واستثمرت في البنية التحتية المحلية لتصدير النفط/ الغاز. وبقيامها بذلك، أنقذت موسكو بشكل أساسي إقليم كردستان العراق الذي كان يقف عند مفترق طرق حاسم، وأعطت الأكراد المزيد من النفوذ على بغداد (على الرغم من أن روسيا كانت حريصة على عدم تعريض صفقات الطاقة الكبيرة لشركة “غازبروم” للخطر مع الحكومة الاتحادية العراقية). وفي أيار (مايو) 2018، وقّع إقليم كردستان العراق على اتفاقية مع “روسنفت” بشأن البنية التحتية للغاز ووافق على بناء خط أنابيب إلى تركيا، الأمر الذي مكّن موسكو من التدخل في علاقات الطاقة الكردية العراقية مع أنقرة. وفي الآونة الأخيرة، أدّت العمليات العسكرية الجارية التي تقوم بها تركيا في إقليم كردستان العراق إلى تعميق الخلافات بين الأكراد، وبإمكان روسيا الاستفادة من الاضطرابات من خلال إبرام المزيد من الصفقات أو غيرها من عمليات التواصل مع الفصائل الفردية.
وفي سورية، استغلت روسيا الأكراد ورقة مفيدة طوال الحرب للإبقاء على الأسد في السلطة وإقناع تركيا بتغيير موقفها تجاهه على حد سواء. وعلى عكس واشنطن، لم يصنف الكرملين حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، حافظ “حزب الاتحاد الديمقراطي” السوري الذي يدور في فلك حزب العمال الكردستاني على مكتب له في موسكو منذ شباط (فبراير) 2016 -في ما يعكس انتقام بوتين الواضح من تركيا بسبب إسقاطها طائرة عسكرية روسية كانت قد دخلت مجالها الجوي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. وبعد ذلك، سعى أردوغان إلى التقارب من موسكو من أجل إعاقة تأسيس دويلة مستقلة يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية.
في حديثه عن الأكراد السوريين في كانون الأول (ديسمبر) 2019، أكد لافروف أنه يجب إعطاء الأسد السيطرة على جميع الأراضي السورية “على أساس أنه يجب أن يتم توفير ما يحتاجه الأكراد في أماكن إقامتهم التقليدية”. وفي الواقع، تعْرِض موسكو نفسها كوسيط وتصر على إدراج الحقوق القانونية الكردية في الدستور السوري، ولكن هدفها الرئيسي هو دعم الأسد -الرئيس السوري الذي يصف الحكم الذاتي الكردي بتقسيم البلاد ويقول إنه لا يستطيع الموافقة عليه.
ومن جانبهم، يواصل الأكراد السوريون تعليق آمال أكبر على الولايات المتحدة من تلك التي يعلقونها على روسيا، ويعزى ذلك عموماً إلى أن التعاون العسكري الأميركي-الكردي كان أفضل وسيلة لإثارة غضب تركيا. ومع ذلك، حالما أعلنت واشنطن أنها ستنسحب من سورية، لم يعد أمام الأكراد خيار آخر سوى التقرب أكثر من موسكو والأسد، الأمر الذي منح بوتين فرصة لتعميق العلاقات معهم وتأسيس قوة عسكرية جديدة في شمال شرق البلاد.
خلاصة
إلى جانب المكاسب التكتيكية المؤقتة، لم يستفد الأكراد السوريون من الدعم الروسي. بل على العكس تماماً. في أوائل العام 2018، قُتل مئات المدنيين الأكراد نتيجة لـ”عملية غصن الزيتون” التي نفذتها تركيا في عفرين، وهو هجوم لم يكن من الممكن أن يحدث من دون موافقة موسكو والتنسيق معها. وفي ذلك الوقت، اتهم القائد العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، سيبان هامو، روسيا بخيانة الأكراد، بينما اتهمت موسكو الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في حدوث الوفيات.
وبالمثل، لم تفعل موسكو شيئاً للحد من الهجوم التركي الحالي في شمال العراق. وطالما تستفيد روسيا من صراعات تركيا مع الأكراد، فإن المصلحة الذاتية وليست المخاوف الإنسانية هي التي ستستمر في دفع عملية صنع القرار.
ومع ذلك، فإن التعاون الكردي مع روسيا مفهوم لأن أي مجتمع في وضع الأكراد سيطلب أي دعم خارجي يمكنه الحصول عليه. وكما قال مصطفى بارزاني ذات مرة: “أنا مثل المتسول الأعمى… لا أبالي بمن يضع المال في يدي”. وبينما لا ينبغي النظر إلى الجماعات الكردية بشكل موحّد، فإن العديد من قادتها يميلون إلى الشعور بالارتياح في التعامل مع روسيا نظراً لتاريخهم الطويل معاً -وواقع عدم قيام موسكو بالضغط عليهم في القضايا الداخلية الحساسة مثل حقوق الإنسان والفساد. والأهم من ذلك، أثبتت التجربة أنه لا يمكنهم ببساطة الاعتماد على الدعم الغربي. وقد عزز هذا التصور قرار إدارة ترامب المفاجئ بالانسحاب من شمال سورية في كانون الأول (ديسمبر) الماضي -بحيث تُرِكت القوات الكردية تحت رحمة غزو القوات التركية ووكلائها، ما أدّى في النهاية إلى اقترابها من بوتين والأسد من أجل إنهاء المذبحة.
بالنظر إلى هذه الديناميات، يجب على المسؤولين الغربيين ألا يستهينوا بنفوذ موسكو عندما تتعاون مع الأكراد في سورية والعراق ودول أخرى. وبينما يواصل الكرملين السعي وراء مصالحه في الشرق الأوسط بطريقة تهكمية، ووحشية، ومزعزعة للاستقرار في كثير من الأحيان، سيتعين على الغرب اكتساب نفوذ أكبر في هذه المجتمعات الكردية.

*باحثة في معهد واشنطن–  29/7/2020

قد يعجبك ايضا