السعودية لا تصدق إيران

عبد الناصر العايد

خلال نحو نصف قرن من التوتر والصراع، اكتسبت القيادة السعودية المعرفة الأعمق والأشد وضوحاً بدولة الولي الفقيه في إيران، وسيكون مثيراً للابتسام أن تشير عليها جهة ما بعدم تصديق طهران أو الحذر منها، ويجب فهم خطوة إعادة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية من منظورات سياسية واستراتيجية أخرى، أكثر روية وتبصراً، لا سيما من طرف السوريين الذين يعتقد معظمهم بأن مسألتهم ستكون القربان على مذبح هذا “التطبيع” في مقابل اليمن.

من نافل القول إن السعودية لم ولن تصدق إيران الحالية، حتى لو سحبت سفاراتها، لا ميلشياتها فحسب، من الدول العربية التي تهيمن عليها، وهي العراق وسوريا ولبنان واليمن. وسيبقى الشك والريبة في أنها تركت ممثلين لها أشد ولاء من سفرائها ذاتهم، مثل قادة المليشيات المسلحة المحليين. بل إن سحب هذه المليشيات وانهاء هذه الظاهرة ذاتها لن يُطمئن العرب، بل سيزيدهم تشككاً، فهذا لن يعني سوى أن غريمهم لم يعد بحاجة إلى ذلك الانتشار العسكري لبسط نفوذه، لأنه صنع او اقترب من صناعة القنبلة النووية التي ستوفر له مظلة دائمة للعدوان والتهديد إلى زمن بعيد.

انعدام الثقة هذا، بين العرب وإيران، لا يمكن اختراقه، وأساسه كامن في جذر النظام القائم في طهران، وهو البُعد الديني المذهبي، وما يرتبط به من مسّ بالأسس الاعتقادية لشعوب المنطقة وعبث خطير ببارود المذهبية، وتلاعب بمعادلات القوة الراسخة بين جماعاتها، والذي يذهب خطره إلى أبعد من نكء الخلافات الحساسة على هذا الصعيد وتأجيجها. فالدولة الإسلامية الشيعية المتطرفة في إيران، كانت وستبقى المحرك الفعلي لنزعة الدولة الإسلامية السنيّة المتطرفة وثمراتها السوداء مثل “داعش،” والتي لن تتوقف محاولات إعادة إنتاج نفسها حتى لو انكفأت إيران الحالية فعلاً إلى داخل حدودها، واعتنت بنموها وازدهارها الداخلي، بل أن ذلك سيزيد النزعة الأصولية السنّية تطرفاً.

الأمر ينطبق على نظام الأسد، وهو ذراع إيران الأبرز وواسطة عقد امبراطوريتها الذي لا يمكن لها التخلي عنه. وسنشهد، خلال الأيام القليلة المقبلة، إعلان إعادة العلاقات السعودية معه من البوابة الروسية. وعلى ما يحمله هذا الخبر من ألم عاطفي للسوريين، إلا أنه لا ينبغي أن يدفعهم إلى حافة التشاؤم أو اليأس والنحيب. بل عليهم فهمه في إطاره الصحيح، والتعامل معه بموضوعية، أي من دون الهرب إلى الأمام والاكتفاء برفضه والتشنيع عليه، ولا قبوله بانهزامية وإعلان العجز. فهذان ردّا فِعل انفصال غير حصيف عن مجرى الأحداث.

يبد أن التغيرات السعودية الحالية تحدث على مستوى العلاقات الدولية العالية، وذلك بالتزامن مع التحولات المتسارعة داخل المملكة. ويهدف التوجهان إلى وضع الرياض على خريطة القوى الدولية القوية، ليس فقط بوصفها دولة نفطية ثريّة فحسب، بل باعتبارها أيضاً أبرز الدول العربية والإسلامية، وبالتالي الممثل الدولي لهذين العالَمين. ومن هذا المنطلق، فهي قادرة على التعاطي مع القوى “الكبرى” على قاعدة النديّة، وأن تشارك كلاعب مستقل كامل العضوية، وهذا ما لا يمكن تحقيقه من خلال الارتباط الدائم بالولايات المتحدة، التي تحولت العلاقات بها في عهد جو بايدن إلى نوع من التبعية غير المقبولة للسعودية في وضعها وإمكاناتها الراهنة.

فالمصالحة السعودية مع إيران ليست هدفاً بحد ذاتها، بل تتعلق بالصراع على قلب بكين، وهي القوة العظمى الثانية حالياً، ووضع الكرة في ملعبها، أو بشكل أدق إلقاء القنبلة النووية الإيرانية في حضن الصين، في قلب هذا التحرك. وسيكون للصين من الآن فصاعداً قيود على سياستها الإيرانية والتزامات نحو السعودية بموجب الاتفاق المعقود. ولأن طهران ليس بمقدورها سوى أن تخدع أقرب الحلفاء لها، فإن الشقاق لا بد أن يتزايد بينها وبين بكين، مع مرور الأيام، لصالح الرياض.

والتصور ذاته ينطبق على العلاقة مع روسيا، التي حلت بقواتها العسكرية ضيفاً ثقيلاً في الشرق الأوسط منذ العام 2015 عندما بدأت تدخلها في سوريا وليبيا، ولم يعد في الإمكان تجاهلها وتركها تعمل فقط لمصلحة الولي الفقيه، ولا بد من التنافس عليها ومعها في مضمار العلاقات الدولية والإقليمية معاً.

بكلمات أخرى، فرضت إيران، خلال العقدين الماضيين، شكلاً من المنافسة مع الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، يقوم على إحياء النزعات المذهبية وزعزعة الاستقرار العام في المنطقة عبر العصابات والمليشيات، وهو أسلوب يلائم تكوين نظام الولي الفقيه وقدراته. ولأن السعودية لا مصلحة لها في الانجرار إلى هذا النوع من المنافسة في المستويات الدنيا، فإنها رفعت الرهان ليكون الصراع في المستويات العليا وعلى أساس “دولتي”، وهو ما يناسبها أكثر ويتساوق مع رؤيتها المعتمدة للتحول إلى دولة حديثة وحيوية. وهي بذلك تترك إيران وراءها كدولة غارقة في تخلف قيادتها الفكري، وتستنزفها المطالبات بالغذاء والسلاح التي يصدح بها حلفاؤها الصغار من مستوى مليشيات فما دون من المنتشرين في الاقليم.

إن هذا التحليل لا يتجاهل الغرب والدور الأميركي، بل انه في صلب الرؤيا السعودية على ما يبدو، لكن على قاعدة تصحيح العلاقة على ضوء المفاضلات الممكنة مع أطراف أخرى، واختيار الصين التي تتجهز واشنطن لمواجهة كبرى معها، ومن بوابة إيران تحديداً، يضع واشنطن أمام استحقاق مفصلي في سياستها الخارجية، خصوصاً إزاء طموحات طهران النووية.

أما عن تأثير ذلك وانعكاساته على الملف السوري تحديداً، فمن المتوقع أن يكون هذا الملف الساخن تحديداً مكسر عصا المصالحة التي تخطط لها الصين. فالانسحاب الإيراني من سوريا في هذا التوقيت، أشبه بالطلب من دولتها الانسحاب من همدان أو كرمان، وسيبقى هذا الملف مجمداً إلى حين اندلاع مواجهة لا بد أن تقع بين الأطراف المتداخلة في الشأن السوري في ضوء التطورات الحالية، خصوصاً ما يجري منها في موسكو بين القيادتين الروسيّة والسعودية، وتلك الأطراف هي بشكل مؤكد روسيا وإيران وتركيا والصف العربي، لكن ايضاً، الولايات المتحدة التي لن يسعها الوقوف جانباً وقتاً أطول من ذلك.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا