السوريون في مواجهة القادة العرب

عبد الناصر العايد

كَمُن وراء الأضواء المبهرة المسلطة على القمة العربية في جدة، صوت احتجاج سوري واسع النطاق في وسائل التواصل الاجتماعي. وبموازاة ما تقدمه شاشات التلفزة الرسمية أو المملوكة لبعض الحكومات، انهمر سيل من الكتابات والصور ومقاطع الفيديو، لمئات الآلاف من السوريين الغاضبين من الاستقبال الحافل لرأس النظام وإعادة إدراجه في النظام السياسي العربي، الذي كانت أولى نتائجه إقصاء المعارضة السورية من المشهد بمنتهى الاستخفاف وعدم المبالاة وإسكاتها بشكل تام، بحيث امتنعت كافة القنوات الفضائية العربية عن استضافة أي سوري معارض لطرح وجهة نظر الشعب السوري في التطورات التي تمس مصيره في الصميم، فيما فُتح الهواء لأصوات تدعم النظام واصلت تشبيحها المعهود والتحدث بلهجة المنتصر الذي بلغ أوجه في المؤتمر الصحافي الختامي، عندما تطاولت إعلامية موالية للأسد على الجهة المنظمة، ما دفع أمين عام الجامعة العربية إلى التعبير عن سخطه ونفاد صبره.

لم تقتصر محاولات الكتم على المنابر الرسمية، ففي عالم التواصل الاجتماعي المفتوح، طارد جيش من الذباب الالكتروني المنظم كل تعليق وتغريدة سورية تعبر عن الرفض أو الاستياء من استضافة الشخص الذي قتل مئات الآلاف منهم في هذا المحفل المهم. ويكشف خطاب ما يُدعى بالذباب الالكتروني، استراتيجية مدروسة للهجوم، أهم أبعادها محاولة استدراج السوريين إلى خانة التصادم مع شعوب ومجتمعات الدول التي طبّعت مع النظام، بدلاً من توجيه النقد إلى الحكام الذين اتخذوا هذا القرار، بهدف منع حصول أي تأثير أو صدى شعبي لانتقادات السوريين أو التأثير في صورة هؤلاء الحكام. وطاول الهجوم العنيف، الأشخاص الذين أشادوا أو رحبوا بمواقف بعض الدول والقادة ممن أبدوا تحفظهم على إعادة تأهيل النظام وطالبوا بأخذ مطالب السوريين بعين الاعتبار، وعدّ “الذباب الالكتروني” كل هؤلاء من المرتزقة!

لا يمكن للمرء أن يشط به الخيال إلى درجة اعتبار هذه الظاهرة مؤثرة أو فعالة سياسياً، فوسائل التواصل الاجتماعي تبقى افتراضية، وتبقى على مسافة بعيدة نسبياً من مجرى الحياة الواقعية. لكن أيضاً، لا يجوز أن يغفل، بداعي الموضوعية، عن بديهيتين مهمتين يمكن استنتاجهما من التجربة السورية مع تلك الظاهرة البازغة. فلدينا أولاً أن وسائل التواصل الاجتماعي صوت الأعماق الاجتماعية المسحوقة والمهمشة، وأداتها ونافذتها التي تعبّر من خلالها عن مشاعرها السريّة ورغباتها المقموعة. ولدينا ثانياً أن التحركات في ذلك العالم الموازي يمكنها الانتقال، في شروط تاريخية معينة، إلى الواقع الحقيقي لتعصف به، ومن هذين المنطلقين يمكن التفكير في الظاهرة الحالية وتطوّرها، لا سورياً فحسب، بل في مساحة الاجتماع العربي أيضاً.

لقد كان واضحاً أن الجيش الإلكتروني، الذي حاول إخراس السوريين، حتى في العالم الافتراضي، كان منظماً، سواء لجهة تنسيق استهدافه لأشخاص مؤثرين، أو لجهة نوعية الرسائل التي يبثها. فقد ركز المغردون مثلاً على تصوير أي انتقاد لقائد دولة ما، بسبب تطبيعه مع النظام، كهجوم على أهل تلك الدولة وقيمهم وتاريخهم، ودمج المجتمع بنخبة الحُكم لبناء سور اجتماعي من المدافعين عنها. كما جرى العمل على نسف فكرة الثورة من جذورها فكرياً وسياسياً، باعتبارها تحركاً أهوج قاد السوريين إلى “تخريب” بلادهم. وتم التشكيك في قدرة الشعوب على مواجهة الحكام من خلال القول بأن السوريين ما كان ينبغي لهم الثورة على حاكم أقوى منهم، استطاع أن يهزمهم ويذلّهم وأن يجعل منهم متسولين ولاجئين في شتى بقاع الأرض.

ولم يفُت الذباب الالكتروني، التشكيك في من قاد أو يقود العملية الاحتجاجية، بوصفهم خونة ولصوصاً ومرتزقة وما إلى ذلك. وواضح هنا، بما لا يدعو للشك، أن هذه الرسائل تمرر باتجاهين، الرئيسي منهما داخلي، موجّه لشعوب هؤلاء القادة والحكام ذاتهم، وهي الرسالة المحورية للتوجه “الضد ثوري” الذي ينتهجه عدد من دول المنطقة لتلافي وتدارك ارتدادات وأصداء الربيع العربي في بلدانها.

إن نجاح الاحتجاج السوري في العالم الموازي، يمكنه أن يحصد بعض النتائج إذا استطاع أن يكون أكثر تنظيماً، وأشدّ تركيزاً في استراتيجيته وهدفه الذي لا يجوز له أن يتجه للانحناء باللائمة على الشعوب العربية مثلاً، فهي أيضاً بلا حول ولا قوة، وتتوق إلى الحرية والانعتاق. وإذا كان الاحتجاج السوري قد صار بارزاً متبلوراً وعالي الصوت، بفضل تضحيات غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، فإن الأصوات المجتمعية العربية ما زالت قيد التشكل، وصعودها ذات يوم حتمي، وينبغي للسابق في التجربة أن يلاقي اللاحق، لا أن يصب عليه لعنات الضحية على ضحية مثله.

كما أن الرفض في العالم الافتراضي يمكن أن يتحول إلى حركة اجتماعية واقعية، ببعض الجهد والاهتمام. فالسوريون في أوروبا، الذي عايرهم الذباب الالكتروني بالهروب من المعركة ضد النظام، لديهم الفسحة والقدرة على تنظيم احتجاجات أمام سفارات المطبّعين، وأنشطة أخرى لا تطاول التطبيع ببُعده السياسي فقط، وإنما تتعداه إلى المظالم الحقوقية الإنسانية العامة التي ترزح تحتها شعوب المنطقة. وهذا ليس ابتزازاً سياسياً، بل هو جانب من المعركة الاجتماعية والحضارية التي من الأجدى أن يخوضها شعوب المنطقة وسكانها معاً.

لقد أكد معظم زعماء الدول العربية الفاعلة في كلماتهم في القمّة، أن المنطقة إزاء حقبة جديدة، وهم يحاولون أن يشدوا أزر بعضهم البعض والتكاتف لمواجهتها، وهذا حقيقي إلى درجة القسوة. وله جانب آخر يتمثل في كون المجتمعات العربية في حالة انتقال وتغير متسارع، من صعيد إلى آخر، قد لا يكون مشرقاً في المدى المنظور، شأن ما جرى للسوريين. لكن، في المدى البعيد، فإن ما يحدث من تحولات اجتماعية بنيوية هو السبيل الوحيد لأخذ المجتمعات زمام المبادرة وصناعة تاريخها، على عكس ما حاولت الحملات الإعلامية المركّزة الإيحاء به. فالسوريون، على سبيل المثال، الذين وُصفوا في وسائل الإعلام الرسمية والافتراضية العربية بالمهزومين الفارين، هم الشعب العربي الوحيد الذي استطاع أن يهجو على الملأ مَن اعترفت واحتفلت به المؤسسة الرسمية العربية، باعتباره رئيساً لهم، وعبّر بمئات الآلاف، وبالأسماء الحقيقية لا بالحسابات المزيفة. وهذه نقطة فاصلة في التاريخ الاجتماعي والسياسي، بل نقطة “لا عودة” يجدر بمَن ما زال يعتقد بسياسة كمّ الافواه والسيطرة الشاملة.. أن يفكر فيها ملياً.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا