العدالة الفرنسية..وتجريم أركان نظام الأسد

عبد الناصر العايد

أُعلن الثلاثاء، في باريس عن أمر قضائي بإدانة ثلاثة من أعمدة النظام السوري أمام محكمة باريس الجنائية. القرار صدر بتوقيع قاضي التحقيق في جرائم الحرب في فرنسا، وكان المدعي العام قد طلب في 27 كانون الثاني/يناير الماضي توجيه لائحة اتهام ضد كل من اللواء علي مملوك، واللواء جميل حسن، والعميد عبد السلام محمود، أمام محكمة باريس الجنائية، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية و”اعتداءات متعمدة على الحياة أو التعذيب أو الإخفاء القسري أو السجن أو غير ذلك من أشكال الحرمان الجسيم من الحرية”، إضافة إلى جرائم حرب و”ابتزاز وإخفاء ابتزاز للممتلكات” ارتكبت ضد باتريك عبد القادر ومازن الدباغ، وهما أب وابنه، فرنسيان من أصول سورية، اعتقلا في دمشق على أيدي المخابرات الجوية وقُتلا تحت التعذيب.

ووفق بيان المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وهو المؤسسة الحقوقية التي قادت مسار الدعوى من الجانب السوري على مدى السنوات الماضية، فقد اعتقل باتريك عبد القادر الدباغ الذي يحمل الجنسيتين السورية والفرنسية والبالغ من العمر 20 عامًا، منتصف ليلة 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2013، من منزله في حيّ المزة بدمشق من قِبل دورية تابعة للمخابرات الجوية، وفي اليوم التالي عادت الدوريات واعتقلت والده مازن الدباغ. ووفق الشهود، أودع الأب وابنه في معتقل مطار المزة العسكري الذي تشرف عليه المخابرات الجوية ويديره العميد عبدالسلام محمود، رئيس فرع التحقيق في ذلك الجهاز الذي غيب فيه عشرات الآلاف من السوريين المعتقلين على خلفية التظاهرات والاحتجاجات.

وفي تموز/ يوليو 2018، تلقت عائلة الدباغ إخطاراً رسمياً بوفاة باتريك عبد القادر، ومازن الدباغ. ووفقًا للوثائق التي تلقتها العائلة، فقد توفي باتريك عبد القادر في 21 كانون الثاني/يناير 2014، بعد فترة وجيزة من اعتقاله، فيما توفي والده مازن بعد نحو أربع سنوات، في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

وسلكت قضية آل الدباغ في طريقها إلى النور، مسلكاً حقوقياً ضيقاً، وكان يجب أن تُنظر مع مثيلاتها في المحكمة الجنائية الدولية المتخصصة بجرائم الحرب، لكن الفيتو المزدوج الروسي والصيني حال مراراً دون تمكن المحكمة الجنائية الدولية من فتح تحقيق بشأن سوريا، ولم يبق للضحايا السوريين سوى التوجه إلى دول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإسبانيا، لرفع قضايا في هذه الدول للتحقيق في جرائم التعذيب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

وبفضل جنسيتهما المزدوجة، استطاعت المحاكم الفرنسية النظر في قضية آل الدباغ بموجب الولاية القضائية على الجرائم المرتكبة ضد المواطنين الفرنسيين، وعلى هذا الأساس فُتح تحقيق جنائي في فرنسا منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

لكن آلاف الضحايا ممن يعيشون في فرنسا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، لم يكونوا يحملون جنسية تلك الدول عند وقوع الجرائم عليهم، ولا يحق لهم رفع دعاوى تحت الولاية الوطنية، ومع ذلك يتيح بعض القوانين إمكانات متفاوتة للعمل على هذه القضايا. فمنذ العام 1986، صارت ممكنة، وفق القانون الفرنسي، ملاحقة أي مشتبه فيه على الأراضي الفرنسية ومحاكمته في فرنسا بتهم التعذيب والإخفاء القسري.

وبعد إدراج قانون روما الأساسي في القانون الفرنسي، العام 2010، صارت للمحاكم الفرنسية ولاية قضائية حيال جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب المرتكبة في بلد آخر، إذا كان المشتبه فيه مقيماً في فرنسا على وجه التحديد. وأنشئت وحدة متخصصة لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في باريس، وهي تعمل اليوم على 85 تحقيقاً أولياً و79 تحقيقاً قضائياً على صلة بجرائم دولية ارتكبت خارج الأراضي الفرنسية، منها نحو عشر قضايا تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا، بينها القضية المعروفة باسم “قيصر” في إشارة إلى جرائم التعذيب الممنهج والقتل تحت التعذيب الموثقة بعدسة المصور قيصر، وقد صُنّف هذا الملف على أنه تحقيق هيكلي في الجرائم التي ارتكبها النظام السوري، وما زال مستمراً.

ليس من المتوقع أن يمثل المتهمون في قضية آل الدباغ أمام المحكمة التي تطالب بإدانتهم بعد دراسة كافة حيثيات وجوانب القضية وثبوت مسؤوليتهم. لكن الصفة الشخصية للدعوى، على اعتبار أن الجريمة وقعت بحق مواطنَين فرنسيَين، تمنحها قوة لا يمكن القفز فوقها أو تجاوزها سياسياً، وسيصبح هؤلاء المتهمون مجرمي حرب في نظر القانون الفرنسي ودول الاتحاد الأوربي ما أن ينطق القضاة حكمهم الذي يتوقع أن يصدر خلال أسابيع. من ناحية أخرى، تفتح هذه القضية الباب لمزيد من الدعاوى التي سيتشجع عدد كبير من السوريين الذين تجاوز عددهم المليونين في أوروبا، على رفعها، لا سيما مع تطور مؤسساتهم المتخصصة في هذا النوع من القضايا، مثل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير وغيره، بل أن عدداً كبيراً من هذه القضايا اجتاز بالفعل أشواطاً طويلة، وسيرى بعضها النور قريباً.

إن وجود كل من علي مملوك، الأب الروحي للسلاح الكيماوي في سوريا، وجميل حسن وأحد أزلامه الرئيسيين بوصفه أحد أخطر القتلة في تاريخ العالم الحديث، وجميعهم أركان رئيسية في نظام الأسد، ضمن لائحة تجريم قضائية لا يمكن التلاعب فيها، سيكون له أثر لا يمكن إنكاره، حتى لو تعلق بجريمة واحدة أو عدد من الجرائم غير قابلة للإحصاء. ويمكننا أن نتذكر بأن أشهر المحاكمات التي تناولت جرائم حرب، كانت قد انطلقت من جريمة واحدة فقط، مثل قضية صدام حسين على سبيل المثال، إذ أصدرت المحكمة حكم الإعدام عليه وعلى زمرته بناء على قضية الدجيل فقط.

تشير القضية، وقرار المحكمة الفرنسية التاريخي أيضاً، إلى أن نظام الأسد ربما يستطيع التلاعب في بعض المستويات وإعادة إنتاج نفسه هنا وهناك، لكنه لن يستطيع في حال من الأحوال الإفلات من تبعات الملف الحقوقي هائل الضخامة المرتبط به. إذ يستحيل عليه وعلى حلفائه، إخفاء كل ذلك الكم من جرائم القتل والتعذيب والإبادة بأسلحة التدمير الشامل والإخفاء والتهجير القسري، مهما حاول إتقان أعماله الوحشية واسعة النطاق، فإن تفصيلاً أو أكثر سيفلت منه ليودي به في نهاية الأمر. ولعل قصة فيديوهات مجزرة حي التضامن، دليل مكشوف على ذلك، لكن المشاريع التي يجري العمل عليها في الخفاء لدواعي السرية، أخطر بما لا يقاس، وستظهر عندما تكتمل، وعندما يحين وقتها واستحقاقها السياسي.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا