العقوبات التي لا تسقط النظام 

رغم عدم إقرار أي عقوبات جديدة ضد النظام السوري في الولايات المتحدة، حيث ينتظر الجميع التصويت على “قانون سيزار”، إلا أن إجراءات عقابية يبدو أنها غير مسبوقة يتصاعد تطبيقها من قبل واشنطن وحلفائها منذ أسابيع عدة، بالتزامن مع اقتراب سريات التطبيق الكامل للعقوبات على حليفة الأسد الاولى “إيران”.

لكن مع هذا يصر البعض على أن لا وجود لكل ذلك حقيقة، رغم منع مصر مرور شحنات إيرانية كانت متوجهة إلى سوريا عبر قناة السويس، ورغم وقف قوات سوريا الديمقراطية “قسد” تصدير النفط ومشتقاته إلى النظام، ورغم قيام طائرات التحالف بقصف بعض قوافل التهريب التي كانت متوجهة إلى دمشق، بينما يصر البعض الآخر على اعتبار أن هذه الاجراءات ستشكل المسمار الأخير الذي سيدق في نعش النظام قبل ترحيله، وهي قناعة تنطلق من تصور قديم للدولة أولاً، وللنظام الدولي ثانياً.

 في الدول القديمة، وحتى سقوط الامبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين، كان سقوط الدول أو الحكام يتم غالباً بأحدى طريقتين: إما بغزو خارجي من دولة أخرى (أو حتى جماعة أخرى من خارج الحدود)، أو بانقلاب قادة الجيش على الحاكم. الثورات الشعبية ظلت كثيرة جداً على مدار التاريخ، لكنها نادراً ما نجحت بتحقيق أهدافها، بسبب وقوف الجيوش مع الحكام ضد هذه الثورات.

كان العامل المادي هو السبب الأبرز في إضعاف الحكام والسماح للقادة بالتدخل في شؤون الحكم، فالدولة الغنية التي تستطيع القيام بمسؤولياتها تجاه المواطنين (الرعية) والصرف على موظفيها، وخاصة العسكر منهم، يكون حاكمها بغنى عن تقديم أي تنازل لقادته، الذين يخضعون له كما يخضع أي مواطنين آخر من الرعية دون أي تسامح طالما كان الحاكم قوياً.

بينما يجد حاكم الدولة المفتقرة نفسه مضطراً للتزلف إلى قادة جنده، والسكوت عن تجاوزاتهم الخاصة والعامة، لأنه بالأصل لا يمتلك أوراق قوة تساعده على مواجهتهم، اللهم إلا الاستعانة بقادة آخرين، سيجد نفسه لاحقاً يواجه معهم ذات المعضلة طالما بقيت الأزمة الاقتصادية قائمة.

لذلك كان الحكام في الدولة الآفلة والفقيرة، يطلقون العنان للقادة ويغضون النظر عن فسادهم، وهؤلاء القادة يغضون النظر بدورهم عن فساد مرؤوسيهم، وهكذا تحدث سلسلة فساد تؤدي في النهاية إلى نفاد ما يمكن التنافس عليه أو سرقته من بين يدي الشعب، فلا يجد القادة بداً وقتها من الانقلاب على الحاكم فتكون نهايته، ونهايتهم معاً على الأغلب.

وعلى الأغلب، فإن المؤيدين أو المشتغلين على تكثيف العقوبات الاقتصادية على النظام السوري اليوم، يعتقدون بامكانية اسقاطه بالطريقة التقليدية تلك، متناسين أو غافلين عن الفوارق بين دولة النظام الحالية والدولة القديمة، حتى وإن كان هناك قواسم مشتركة بينهما، ويكفي الاشارة هنا إلى اختلاف النظام الاقتصادي العالمي في الحاضر عما كان عليه الحال ماضياً لإدراك ذلك، هذا اذا ما استثنينا عامل الاحتلالين الروسي والإيراني أيضاً، والذي بات النظام خاضعاً له (الاحتلال الثنائي) ومستفيداً منه في الوقت ذاته.

فإذا كان بالأمس مال كل دولة مستقل بنفسه، فاليوم هناك نظام اقتصادي دولي لا يمكن إلا أن يدخل في الحسابات. وإذا كان أصحاب المال في المجتمعات القديمة خاضعون تماماً هم وأموالهم للدولة التي ينتمون إليها، محكمون بجغرافيتها، فإن رأس المال اليوم سيال وذو طبيعة أكثر تعقيداً، ويمكن أن يعيش ويتخفى ويعاد تشكيله بأماكن وطرق غير محدودة.

بمعنى، أن الحاكم أو الوزير أو القائد في الدولة القديمة، لم يكن بمقدوره الفرار بأموال ضخمة من بلده في حال تغير نظام الحكم، هذا إن تمكن من الفرار، كما أنه كان من السهل حصر ومصادرة الأموال والممتلكات بسهولة كبيرة.

في الحالة السورية، يعتقد المتحمسون لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على النظام ورجالاته وواجهاته المالية، أنها طريقة مفيدة وتساعد في اسقاط هذا النظام (إن لم نقل أن هناك من يعتقدون أنها الطريقة الممكنة إلى اسقاطه بالفعل).

يرى جزء من هؤلاء أيضاً أن العقوبات المفروضة أو المقترحة لا يمكن أن تلحق الأذى بالشعب، على اعتبار أنها عقوبات ذكية تستهدف قطاعات محددة في النظام، كقطاع الطيران والاتصالات والبنوك، ناهيك عن كونها تلاحق أشخاصاً ومؤسسات ذوي هوية واضحة، يمثلون شبكة المتنفذين والفاسدين داخل النظام، وأن هذه العقوبات لا علاقة لها بقطاعات أخرى تمس حاجات المواطن العادي اليومية، وخاصة أو على سبيل المثال، الوقود، على اعتبار أن سوريا تعيش أزمة وقود ضخمة حالياً.

الجزء الآخر من مؤيدي العقوبات لا مشكلة لديه أصلاً في أن تلحق هذه العقوبات الأذى بالمواطن العادي، على أساس أن كل من يعيش في مناطق سيطرة النظام هو مؤيد له، ويجب أن يتحمل جزء من فاتورة اسقاطه، طالما أن بقاء هذا النظام يعتبر ثمن باهظاً بحد ذاته.

طبعاً نتجاوز فئة العصابيين الذين يرون أن كل من يعيش في مناطق سيطرة النظام مؤيدون له وشبيحة يستحقون أن يعانوا، وأن من الجيد أصلاً أن يعيش هؤلاء ظروفاً قاسية كتلك التي عاشتها المناطق التي كان يحاصرها النظام، وبالتأكيد فإلى جانب تهافت هذا المنطق فإنه يتجاهل المعاناة التي عاشها أيضاً سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام طيلة السنوات السبع الماضية، ولا يرى من الصورة سوى الجزأ الذي يظهر رقص الشبيحة ودبكاتهم في كل مرة، وآخره على أبواب محطات الوقود المزدحمة، بينما يتجاهلون الكثير من انعكاسات مثل هذا النوع من العقوبات على الجميع، حتى على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وقد بدأت آثار ذلك تظهر بالفعل في منطقتي إدلب وحلب، وهؤلاء على العموم لا يوجد ما يمكن مناقشته معهم.

أما بالنسبة للفريق الأول الذي يعتقد بامكانية اسقاط النظام من خلال العقوبات الاقتصادية، فإن هؤلاء لا ينسون فقط التجارب الكثيرة في التاريخ الحديث والمعاصر للأنظمة التي تعرضت لعقوبات كانت أقسى من تلك المفروضة على النظام، أو التي سيتم فرضها حال اقرار (قانون قيصر) من قبل الإدارة الأمريكية، كتجارب العراق وموزامبيق وكوريا الشمالية وكوبا وإيران وفنزويلا، وغيرها من الدول التي لم تسقط العقوبات المفروضة عليها أياً من أنظمتها، بل على العكس من ذلك، ساهمت في انهاك الشعوب وتعزيز سطوة هذه الأنظمة الخبيرة بالحكم البوليسي وبأساليب الفساد، فزادت ثروات قادة الأنظمة، وتضخمت خزائن حاشياتهم ليصرفوا منها على جيوشهم ومؤسساتهم الأمنية التي كانت تبتلع ما تبقى من فتات المال والقوت بين يدي الشعب.

في الحالة السورية لن يكون الأمر مختلفاً، بل يبدو هذا القول درامياً الآن وقد تحققت كل هذه الأعراض مسبقاً، وخاصة لجهة افساح المجال لقادة وعناصر الجيش والأمن من الدرجات الوسطى والدنيا، وفتح الباب أمامهم على مصراعيه لممارسة كل أشكال الفساد والاستغلال وسرقة الناس، والسكوت عن ذلك رسمياً بحجة “ضرورات المرحلة”، وفي هذا تشابه بالفعل مع تعامل الحكام في الدول القديمة مع مرؤوسيهم في فترات الثورات والاضطرابات، لكي يضمنوا ولائهم ودفاعهم عن العرش.

لكن الاعتقاد أن العقوبات الاقتصادية، وهذا الكلام موجه للمتفائلين بها، ستؤدي إلى أن يُسقط في يد رؤوس النظام، وستمنعهم من التصرف بملياراتهم التي سيتم مصادرتها ومنعهم من تحريكها، بما يؤدي في النهاية إلى عجزهم عن دفع رواتب الجيش والأمن وميليشيات الشبيحة المستخدمين في السيطرة على الناس، بما يتيح الفرصة لانقلاب الطبقات الوسطى والدنيا من العسكر والأمن على قادتهم، أو على الأقل إعلان العصيان وعدم تنفيذ الأوامر بعد ذلك، الأمر الذي يسمح بالتالي للجماهير المأزومة والغاضبة بالتحرك بأريحية في الحواضر التي يسيطر عليها النظام والتدفق نحو القصور والمنشآت لاسقاطه، أو حتى على الأقل أن يؤدي عصيان الجنود وصف الضباط والضباط الصغار غير المستفيدين من حصص الفساد إلى انهيار هذا النظام، هو اعتقاد أو سيناريو متخيل، ينطلق من تصور كلاسيكي بدائي بكل تأكيد، يرى أن أموال النظام موجودة في أسواق الأقمشة والذهب والمفروشات في دمشق وحلب وطرطوس، ويمكن بكل سهولة ضبطها ومنع التصرف بها في حال السيطرة على هذه الأسواق!.

لقد أثبتت كل تجارب العقوبات الاقتصادية الحديثة، أن الأنظمة تتوتر في بداية تطبيق هذه العقوبات عليها، لأنها تشعر بنوع من الضعف أمام الشعوب التي تحكمها، لكنها ما تلبث أن تحولها إلى فرصة جديدة للامعان في السيطرة على الجماهير وسرقت مقدراتها واستتباع مرؤوسيها الذين تؤمن لهم، بحكم المرونة التي يوفرها النظام الاقتصادي العالمي الحديث، احتياجاتهم المادية التي لا تتوفر لبقية المواطنين إلا بصعوبة كبيرة، وأثمان بالغة، وكميات قليلة ومرات نادرة، بحيث يصبح هؤلاء المرؤوسون بمرور الوقت، جزء لا يمكن أن ينفك أو يتميز عن النظام، على الأقل من وجهة نظر الشعب، الذي سيظل يرى فيهم مخبرين وجواسيس وجلادين وأدوات قتلِ وهيمنةِ النظام، وسلاحه الأمضى في السيطرة عليهم، وبالتالي تقليل فرص التسامح معهم، بما يجعل من هؤلاء الجنود وعناصر الأمن والمتطوعين الجدد، مستعدين للدفاع بشراسة أكبر عن النظام الذي يستخدمهم، كأنهم يدافعون عن حياتهم وبقائهم ومستقبلهم، الذي يرون أنفسهم فيه معلقين على أعواد المشانقن أو مسحولين في الشوارع إذا ما سقط هذا النظام، بعد أن يكون تعاونهم معه قبل بدأ قبل ذلك بصورة ئشكلية أو نفعية انتهازية.

طبعاً الكثير من المعارضين والثوار سيرفضون هذا الكلام، على الأقل من منطلق أن أي خطوة تدفع باتجاه اضعاف النظام، مهما كان ثمنها على الشعب، هي خطوة مطلوبة ويجب تأييدها، طالما أن الشعب يعاني بكافة الأحوال، لكن هؤلاء لا يقدمون أي برهان على أن هذه العقوبات ستؤدي فعلاً إلى اضعاف النظام وتفكيكه وانهياره، لأنهم يتجاهلون أصلاً، أو يفوتهم في زحمة التفكير الرغبوي والتشويش المسيطر على المعلومات والتقديرات أن ما يبحثون عنه قد تحقق بالفعل ولم يتبق للنظام أي عوامل قوة أكثر مما يكفيه ليكون واجهة للاحتلال لا أكثر، وأن المطلوب اليوم هو التفكير في التخلص من الاحتلالين الروسي والإيراني بالدرجة الأولى، وهو الشرط الرئيسي والوحيد ربما للخلاص في سوريا.

هل يعني كل ما سبق رفض أي إجراءات عقابية اقتصادية بحق قادة النظام وكبار المسؤولين فيه ؟

بالطبع لا، وبالطبع نريد جميعاً رؤية كل المجرمين يدفعون ثمن ما ارتكبوه بحق السوريين على مدار العقود الماضية وليس فقط العقد الأخير، ونريد كلنا قبل ذلك أن تتم مواجهتهم بكل الاجراءات الممكنة التي تؤدي إلى إضعافهم اقتصادياً ومصادرة أموالهم في الداخل والخارج وإعادة ما سرقوه من الشعب للشعب، لكن نريد أن يحصل كل ذلك بوسائل لا تلحق المزيد من الضرر بالشعب الذي انهكته سبع سنوات من الحرب.

قد يعجبك ايضا