الغزالة التي لم تُسمع منها كلمة واحدة

جسر: ثقافة:

حسن داوود٭

في رواية خليل الرز لا تنطق الغزالة، وكذلك الكلبان موستاش ورئيسة بتروفنا، بالكلام البشري الذي سبق أن جرى على ألسنة حيوانات أخرى. لم يزوّدها روائيّنا بتلك الملكة التي حظي بها الثور، الذي جعل يصف بالتفصيل وجعَه من تمزيق الرصاصة لجمجمته، كما في قصة لأرنست همنغواي عنوانها «فرانسيس موكامبير»، وليست مثل الكلب الناطق أو الواصف في «خفة الكائن غير المحتملة» لميلان كونديرا، ولا أي من المخلوقات الكثيرة التي زوّدها وليم فوكنر بالقدرة على إطلاق الكلام.

هنا، في رواية «الحي الروسي» تظل الزرافة صامتة، محدّقة بالشاشة الصغيرة التي مكنها طول عنقها من أن تكون على مستوى التلفزيون الموضوع على شرفة الطابق الثاني. ظلت الزرافة كالمستوحدة، نائية بنفسها عن الرجل والمرأة ساكنيْ البيت، بل الجالسين على ذلك القرب منها مشاركين إياها النظر إلى ما يدور على الشاشة. ولم تملّ الزرافة من تكرار صور القتل والخراب التي تتكرر أمامها، باللونين الأسود والأبيض. ظلت مديمة النظر، من دون توتر ولا انزعاج، إلى ما يحدث خارج حديقة الحيوانات التي هي أبرز نازليها القليلين.

لكنها تستطيع أن تتواصل مع من هما حولها، رغم الصمت والتوحّد، بل أن ترسل إليهما تلك الأفكار بما يشبه التخاطر المنتقل من رأس إلى رأس. في إحدى المرات أوصلت ذلك محمولا على يدي نونّا، المنهمكة على الدوام بحياكة الصوف. أخرجت خواطرها عصفورا حيا من الصوف الذي لم تنته المرأة من حياكته بعد. والزرافة، بالصمت إياه، استطاعت في صفحات الرواية الأخيرة أن تقود مشيّعي جثمان عصام إلى المقبرة. هؤلاء كانوا كثيرين، مدفوعين برغبة الاحتجاج على مقتل بطلهم، لكنهم في الآن نفسه خائفين من أن تُسقط عليهم الطائرات صواريخها، أو براميلها. كانت الزرافة قد أدركت أن أحدا لن يقدر على إيصال الجنازة إلى المقبرة، فانبرت هي، معتمدة في قيادتها على طولها المهيب وتقدمت، رغم الخطر، لتقود تلك الجموع البشرية المحتشدة.

الكلبة رئيسة بتروفنا والكلب موستاش لا ينطقان بالكلام هما أيضا لكنهما، بالنباح، يستطيعان المشاركة في أكثر مواقف البشر، ولكونهما اثنين، يقضيان أكثر الوقت في ملاحقة أحدهما للآخر. أما الآخرون من البشر فعاديون إلى حدّ أن أيا منهم لم يفلح في أن يحيد خطوة واحدة عن الانتظار والاستكانة وترقب ما قد يتأتى من الحيوانات المقيمة في الجوار، والمختلط عيشها معهم كأنهم أشخاص استثنائيون يتميزون بقدرتهم على استشراف ما سيأتي. من ذلك مثلا أن عبد الجليل حجازي، فيما هو يتبع قطّه الشارد، يروح يفكّر كيف أقعدته الحرب عن شغفه بأداء الأدوار التمثيلية، واكتفائه بعمله مصلحا للساعات المتوقفة.

تتداخل في رحلة تعقب عبد الجليل لكلبه أمور كثيرة. فهو يتنقل بلا ضابط بين ماضيه وحاضره، خالطا أشياء كثيرة، بينها فقراء الحرب المقيمون في صالة السينما ونابليون بونابرت الظاهر على الشاشة منكسرا في آخر معاركه، في ما لا يتوقف سعال الطفل الصغير النازل مع أهله، ليل نهار، لاجئا في السينما. وفي ثنايا ذلك المشهد نقرأ تاريخا ونلاحق كلبا شاردا ونصغي إلى ما يشبه المرثاة الشخصية، منتقلين بسرعة لاهثة من مشهد إلى مشهد ومن فكرة إلى أخرى. كأن عبد الجليل حجازي يقف منسطلا أمام مرايا كثيرة، يعرض كل منها مشهدا مختلفا. ذلك الفصل من الرواية ينجح في نقل ذروة روائية متجمعة من فيض تخيّلي، وكتابي من ثم، قلما تفلح الأعمال الروائية في التحكم به وضبطه.

ويظل قارئ هذه الرواية متسائلا، لماذا جرى جمع كل هذه الكائنات معا، وإلى ماذا يرمز وجود الزرافة التي لم تحظ، في التاريخ الأدبي المكتوب عن الحيوان، بما يُلصقها بمزاج أو بمأثرة أو برمز، على نحو ما أتيح لكثير من الحيوانات الأخرى. كان علينا أن ننتظر حتى فصول الرواية الأخيرة حتى نراها سائرة بين الأعلام المرفوعة وصوت الموسيقى المدويّ ونعرف أن ارتفاعها الشاهق يصنع مشهدا احتفاليا وبطوليا معا، وممتلئا بقوته الرمزية في الوقت نفسه. ثم كيف يمكن أن تُزجّ هذه الغرابة في وقائع يومية لحرب يلاحق متتبعوها أخبارها بالتفصيل؟ هكذا يبدو الروائي خليل الرز راغبا في أخذ الحرب، عبر بعض أحداثها العادية، إلى عالم غرائبي. ونظل، نحن قراءه، نتساءل إن كانت هذه الفانتازيا ملائمة لحرب في أوج احتدامها. ثم يصير هذا التساؤل ملحا حين ننتبه إلى الجانب الفكاهي الخافت، المختبئ، الذي تنطوي عليه تلك الغرابة. لكننا نعرف، مع دوام القراءة، أننا نقرأ عملا مختلفا وخارجا عن الإغراء المتمثّل بأن تكون الكتابة على قدر فظاعة ما تكتب عنه.

٭«الحي الروسي» رواية خليل الرز صدرت عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف في 286 صفحة ـ 2019.

٭ حسن داوود : روائي لبناني

القدس العربي 21 آب/أغسطس 2019

قد يعجبك ايضا