اللاجئون السوريون يواجهون شيخوخة ألمانيا ويطعمون غول بلادهم!

جسر – صحافة

“عبد الناصر العايد”

احتفل الألمان في ستينيات القرن الماضي بوصول العامل التركي الرقم مليون، إلى بلادهم، للمساهمة في إعادة اعمارها بُعيد الحرب العالمية الثانية، بناء على اتفاقية بين الحكومتين التركية والألمانية عُرفت باتفاقية العمال الضيوف، حيث لعب العمال الأتراك دوراً كبيراً في النهضة الاقتصادية التي تعرفها ألمانيا الحالية، ويقدر عدد السكان من خلفية تركية في ألمانيا اليوم بأكثر من ثلاثة ملايين شخص. وفي العام 2015، خرجت تظاهرات في ألمانيا أيضاً للترحيب باللاجئين السوريين، والذين بلغ عددهم المعلن اليوم في ألمانيا أكثر من 800 ألف، فيما يؤكد مراقبون سوريون أن عددهم يتجاوز المليون نظراً لحصول عدد كبير منهم على جنسية البلد المضيف.
تتشابه ظروف ألمانيا جزئياً، في لحظة قدوم السوريين، مع ظروف الهجرة التركية. ففي الخمسينيات ومطلع الستينيات، كان عدد الأيدي العاملة في ألمانيا قد انخفض بسبب ظروف الحرب، ويُظهر هذا البلد اليوم، مجدداً، الحاجة إلى مزيد من الموارد البشرية لاستمرارية عمل القطاعات الإنتاجية، ووفق تصريحات خبيرة ألمانية، فإن سوق العمل في بلادها سيعاني حتى العام 2030، نقصاً يتراوح بين مليونين وسبعة ملايين شخص مؤهل، وسيتسبب بذلك بخسارة للاقتصاد الألماني تقدر بمئات مليارات اليوروهات.
ويُعتبر انخفاض عدد الولادات في ألمانيا، السبب الرئيس وراء هذه الأزمة. فمعدل الولادة لكل امرأة هناك، يقف عند مستوى 1,53 مولوداً، بينما يحتاج استمرار النمو الاقتصادي إلى ما معدله 2,1 طفلاً لكل أمّ، وفي هذا المجال بدأت تظهر أولى نتائج هجرة السوريين. فتشير إحصائية حديثة، نشرها المركز الفيدرالي الألماني في فيسبادن، أن عدد المواليد بين طالبي اللجوء قد ازداد بأكثر من ستة أضعاف، بين العامين 2015 و2019، ثلث هؤلاء من السوريين. ويعني هذا الأمر، في ما يعنيه، أن كتلة اللاجئين السوريين الكبيرة في ألمانيا تتضخم بسرعة، لتتقدم إلى المراتب الأولى في فئات السكان في ذلك البلد.
وقد وضعت الحكومة الألمانية قانون وسياسات الاندماج، على ضوء تجربتها مع الأتراك. فالعمالة التركية المهاجرة ظلّت زمناً طويلاً تعاني ضعف الاندماج في المجتمع الألماني، وحظاً أقل من التعليم حتى الجيل الثالث منها، بل أن الجيلين الأول والثاني بقيا في مستوى متدنٍّ من تحدث اللغة الألمانية بسبب العيش في أحياء مغلقة اجتماعياً وثقافياً. فيما فرضت الحكومة على المهاجرين السوريين تعلم اللغة الألمانية، ومهنة أو حرفة، خلال ثلاث سنوات من وصولهم إلى ألمانيا، وجعلت من ذلك شرطاً لا غنى عنه لتلقي المساعدات، الأمر الذي أهّل نسبة عالية منهم للحصول على عمل ثابت. ويتميز السوريون عن موجات الهجرة الأخرى في ألمانيا، سواء القادمة من تركيا أو صربيا أو البوسنة، بأن ذوي التخصصات العليا تمكنوا من الاندماج في سوق العمل بسرعة، أو متابعة دراساتهم والحصول على عمل تالياً. وكشفت إحصائية حديثة أخرى، وجود أكثر من خمسة آلاف طبيب سوري مقيم في المشافي الألمانية، السنة الفائتة، متقدمين على كل الجنسيات الأخرى بفارق يُعد بالآلاف. ويعتقد اليوم أن الأطباء السوريين، أو من السوريين الذين حصلوا على الجنسية الألمانية، يحلون في الترتيب الثاني بعد الأطباء من أصل ألماني من حيث العدد.
تبدو هذه المعطيات مبشرة لكل من الألمان واللاجئين السوريين هناك، على حدّ سواء، لكنها خسارة فادحة لبلد صغير مثل سوريا، يحتاج إلى كل شبانه ومؤهليه وكفاءاته. لكن، أيضاً، وبالنظر إلى المآل المأسوي الذي ستؤول إليه هذه الأجيال في ظل نظام فاسد وعنفي، مثل نظام الأسد، فإن النتيجة ستكون ذاتها في الواقع، وهذه الطاقات ستُدمر أو تصبح عالة على اقتصاد البلاد الضعيف. ومن هذا المنظور، فإن نجاة هؤلاء، ووصول أطفالهم وعائلاتهم إلى بلد يحترم إنسانيتهم، هو من حيث المبدأ، أفضل ما يمكن أن يحدث لهم ولبلادهم الأصلية أيضاً.
كل مَن تقابله في ألمانيا من اللاجئين السوريين، يخبرك بأنه يستطيع، حتى مع اعتماده على المساعدات الاجتماعية، أن يقدم دعماً ولو محدوداً جداً لمن تبقى من أسرته داخل سوريا، وأن تلك المساعدة الإنقاذية هي ما يقيم أود من تبقى، ويوفر لهم الخبز بالحد الأدنى. هذه المساهمة ستتصاعد بالتأكيد، بالتزامن مع شق هؤلاء طريقهم في سوق العمل، وتنامي مداخيلهم ومدخراتهم. قد لا يستطيع المرء اليوم، تخمين حجم العون الذي سيقدمه هؤلاء في المستقبل، لكن الدراسات تشير مثلاً إلى أن أتراك ألمانيا يحولون ما يقرب من المليار دولار سنوياً إلى ذويهم في بلادهم، عدا عن التبادلات التجارية والتحويلات غير المصرح بها، الشائعة بين اللاجئين. وفي حال وصلت تحويلات السوريين، إلى مبلغ مُقارب، فنحن نتحدث عن مساهمة نهضوية لبلد لا يتجاوز حجم الناتج القومي الإجمالي فيه الأربعة مليارات دولار.
حال السوريون في ألمانيا، يكاد يتطابق مع حالهم في بلدان اللجوء الأوروبية الأخرى، التي يقطنها مليون آخر منهم. تتحسن أوضاعهم بالتدريج في سوق العمل، وتنمو اقتصادياتهم، وسينعكس ذلك بلا شك في الداخل السوري مباشرة. وهناك، سيتلقف جزءاً كبيراً من تلك العوائد، النظامُ نفسه الذي قتَل ذويهم وهجّرهم، ليديم سلطته وسيطرته على بلادهم، في واحدة من أكثر مفارقات التاريخ مأسوية وغرابة.

المصدر: موقع المدن

قد يعجبك ايضا