الليرة التركية تنتعش أمام الدولار

للمرة الأولى منذ أشهر ينعكس اتجاه مؤشر سوق العملات في تركيا لمصلحة الليرة التركية التي ارتفع سعر صرفها أمام الدولار، خلال الأسبوع الماضي، من 7,20 ليرة للدولار الواحد إلى ما تحت 6,70 ليرة. وتميل تقديرات المحللين الأتراك إلى ربط هذا التحسن بمضمون المكالمة الهاتفية التي جرت، في 29 أيار، بين الرئيسين أردوغان وترامب الذي كان موضوعه الرئيسي هو صفقة الصواريخ الروسية s300 التي تعترض عليها الولايات المتحدة بشدة، منذرة بعقوبات قاسية في حال إصرار الرئيس التركي على اتمامها.

ما تسرب عن مضمون تلك المكالمة يشير إلى قبول الرئيس الأمريكي بإنشاء لجنة عمل مشتركة من الفنيين للتباحث حول مدى المخاطر التي قد تنجم عن توطين الصواريخ الروسية المتطورة فوق الأراضي التركية على بعض منظومات السلاح الأمريكية الصنع، وبخاصة طائرات f35 ذات التكنولوجيا العالية التي اقترب موعد تسليمها إلى أنقرة ويهدد الأمريكيون بوقف تسليمها في حال أصر الأتراك على شراء الصواريخ الروسية. سبق للرئيس التركي أن طرح فكرة تشكيل لجنة العمل المشتركة هذه، أكثر من مرة، حلاً للخلاف بين الطرفين، لكن الأمريكيين تجاهلوا الاقتراح تماماً. وكانت واشنطن قد منحت تركيا مهلة أسبوعين لإلغاء صفقة الصواريخ الروسية، لكن الأتراك لم يظهروا أي علامة من علامات التراجع، وتتابعت التصريحات الروسية حول تمسك روسيا وتركيا بإتمام الصفقة.

بموافقة ترامب على فكرة لجنة العمل المشتركة، يكون أردوغان قد حصل على “فترة سماح” إضافية قصيرة يتوقع أن تنتهي بانتهاء الانتخابات المقبلة على رئاسة بلدية إسطنبول في 23 حزيران/يونيو الحالي. وهي انتخابات حاسمة قد تحدد مصير الحزب الحاكم في السلطة على المدى المتوسط، بعدما حولها بنفسه إلى نوع من الاستفتاء على شعبية الحكومة وشعبية أردوغان بالذات، بل إلى معركة سياسية كبيرة حول قيم الديمقراطية والإرادة الشعبية والعدالة والشفافية.

من ناحية ترامب، ربما يمكن تفسير “تسامحه” المفاجئ مع أردوغان في موضوع الصواريخ، بإعجابه الشخصي بالرئيس التركي الذي سبق أن عبر عنه في مناسبات سابقة، لاشتراكهما معاً في صفة “الشعبوية” التي يوصفان بها في الإعلام. فهذا ما يمكن أن يفسر هذا التسامح المتعارض مع إرادة الكونغرس المتشددة إزاء موضوعي الصواريخ الروسية والطائرات الأمريكية إزاء أنقرة.

حسناً، تم إرجاء البت بمعاقبة تركيا على صفقة الصواريخ الروسية إلى ما بعد انتخابات إسطنبول. فماذا عما بعدها؟

أغلب التوقعات هي في اتجاه إيجاد مخرج من ورطة الصواريخ الروسية بما يجنب تركيا مفاعيل العقوبات الأمريكية في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من حالة انكماش كبيرة وأرقام البطالة منذرة بالخطر وثمة تراجع كبير في استقطاب الاستثمارات الخارجية. فلجنة العمل المشتركة هي مجرد مخرج مؤقت لكسب بعض الوقت، وليست مخرجاً نهائياً يعيد الثقة المفقودة بين تركيا وحلف الناتو، وبخاصة الولايات المتحدة. أما المخرج النهائي الذي من شأنه إخراج تركيا من هذه الورطة، من غير الصدام مع روسيا، فهو شراء الصواريخ و”دفنها” في مستودع ما من غير “فتح أمبلاجها”. أو إعادة بيعها إلى دولة ثالثة بموافقة الأمريكيين والروس. وهناك سابقة من هذا النوع، حين اشترت جمهورية قبرص صواريخ روسية من طراز s300، وإذ اعرضت تركيا بشدة، قامت اليونان بشرائها من قبرص ووضعتها في مستودعات على إحدى الجزر اليونانية تاركة إياها ليتآكلها الصدأ.

فالبديل عن حلول من هذا النوع هو قطيعة كبيرة، ربما نهائية، بين تركيا والحلف الأطلسي، يتلهف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرؤيتها. أما الرأي العام التركي فهو لا يريد مجرد التفكير بافتراض من هذا النوع، على رغم قوة تيار شعبوي إسلامي – قومي – يساري يتعيش على خطاب “العداء للإمبريالية” والعداء لأمريكا وإسرائيل. لكن غالبية المتن الاجتماعي في تركيا متمسكة بمصير تركيا المتوافق مع الغرب وقيمه كما رسمه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.

لكن مجرد إعجاب ترامب الشخصي بأردوغان قد لا يكفي لتفسير تساهل الأول مع الثاني في منحه مهلة جديدة قبيل انتخابات إسطنبول. فمن المحتمل أن للأمر علاقة أيضاً بالتطورات في سوريا، وبخاصة في “منطقة خفض التصعيد” شمال محافظة حماة وجنوب محافظة إدلب، حيث ينذر التصعيد الروسي الكبير في ضرب الأهداف المدنية، وضمناً قصف نقاط قريبة من مراكز المراقبة العسكرية التركية، بوصول التفاهمات الروسية – التركية إلى نقطة اللاعودة. وهو ما تتمناه واشنطن بطبيعة الحال، أي “عودة الابن الضال” التركي لحضن الحلف الأطلسي بعد “مغامرته الروسية” الطويلة.

قبل أسابيع قليلة كانت جمعية رجال الأعمال في تركيا قد اتخذت موقفاً ناقداً للحكومة، بمناسبة إعادة الانتخابات على بلدية إسطنبول، وهي الجمعية التي تضم أصحاب الثروات الكبرى الذين طالما كانوا على وفاق مع الحكومة. لقد شكل ذلك نذير خطر على السلطة، بأكثر مما يمكن لمجموع أحزاب المعارضة أن يفعل. واستجاب سوق الصرف لهذا التحدي بارتفاع حاد في سعر صرف العملات الأجنبية أمام الليرة التركية. أما اليوم فقد ردت الروح لليرة أمام العملات الأخرى، ولا شك أن الحكومة تتمنى استمراراً في تحسن وضعها. وهو ما لا يمكن الركون إليه بغير تطبيع العلاقات مع واشنطن الذي يبدأ بحل مشكلة صفقة الصواريخ الروسية، ولا ينتهي بالتوافق على صيغة مرضية للمنطقة الآمنة شرقي الفرات.

المصدر: القدس العربي ٦ حزيران/يونيو ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا