المشيخة المعارضة والمؤيدة: السياسة لا تفسد للود قضية

رشيد الحاج صالح

شكلت تعزية الشيخ أسامة الرفاعي بوفاة الحاجة منيرة قبيسي، قبل أيام، مفاجأة من العيار الثقيل لعدد كبير من جمهور الثورة السورية. فالشيخ أسامة معارض للنظام السوري وطالب بإسقاطه، كما أصدر السنة الماضية “وثيقة العهد” التي وصف فيها كل من يشارك بانتخاب بشار الأسد بأنه “مجرم” وشريك للنظام في تدمير سوريا. ولكنه، بنفس الوقت، قدم عزاء حارا بوفاة الحاجة منيرة قبيسي على الرغم من حرصها على التصوير أمام الكاميرات وهي تنتخب الرئيس بشار الأسد، وعلى الرغم من موقفها الثابت المؤيد للنظام السوري، غير آبه بما يحصل في سوريا على مدى 12 عاما، ولا بعيش الشيخ أسامة في المهجر تحاشيا لبطش بشار الأسد.

غير أن تلك التعزية تسجل موقفا سياسيا واضحا من قبل الشيخ أسامة يقول: السياسة لا تفسد للود قضية بين المشيخة السورية المعارضة والمشيخة السورية المؤيدة. وهو موقف جميع المشايخ المؤيدين والمعارضين على السواء. حتى أن المتابع لشؤون رجال الدين في سوريا لا يكاد يعثر على أي نقد أو تخوين أو تجريم صدر من قبل أحد الأطراف ضد الطرف الآخر. حتى وثيقة العهد التي أتينا على ذكرها، والتي جرّمت كل من يشارك في انتخابات الرئيس، وخونت من يؤيد النظام الأسدي بالعمل، لم تأت لا من قريب ولا من بعيد على ذكر المشايخ المؤيدين للنظام، على الرغم من أن هؤلاء شكلوا طابورا خامسا حقيقيا جند نفسه للدفاع عن النظام والتسويق له.

سيما وأن النظام السوري، وبعد إصداره القانون 31 الناظم لعمل وزارة الأوقاف عام 2018، أخذ يعتمد أكثر على مشايخ سوريا لجلب مزيد من الولاء. وهو القانون الذي لا تفسير له إلا إدراك بشار الأسد للمكاسب الثمينة التي توفرها له المشيخة السورية المؤيدة من قبيل: مديريات أوقاف وشيوخ جوامع ومعاهد دينية وقبيسيات ومشايخ طرق صوفية. حتى أن خطوة إلغاء منصب مفتي سوريا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أتت في سياق إعادة تنظيم المشيخة السورية وجعلها أكثر انسجاما وقدرة على خدمة النظام بعيدا عن مناكفات المشايخ وخلافاتهم.

وبالمقابل لا نعثر على أي نقد أو تجريم أو تخوين، لا من قريب ولا من بعيد، وجهه المشايخ المؤيدون للمشايخ المعارضين. حتى مفتي الجمهورية المخلوع الشيخ أحمد حسون، ووزير الأوقاف محمد عبد الستار وهما أبرز وجهين مؤيدين للنظام، وعلى الرغم من تجريمهم كل من يعارض النظام إلا أنهما لم يأتيا يوما على ذكر المشايخ المعارضين، ويحرصان على عدم التفوه ببنت شفة تنال من مشايخ المعارضة.

ولكن كيف يمكن تفسير هذه المفارقة؟ تعود أسباب هذه المهادنة إلى أن كلاً من الطرفين لا يرى سوريا خارج نطاق الأولوية الدينية، ويقدم هذه الأولوية على الموقف السياسي، سواء كان مؤيدا أو معارضا؛ وهذا يعني أن التأييد أو المعارضة أمر ثانوي بالنسبة للمشيخة السورية بمختلف توجهاتها، وليس أمرا يرتقي إلى المستوى الذي يقود إلى العداوات طالما أن الرؤية واحدة.

فالطرفان يريدان في النهاية أن تكون سوريا ذات هوية إسلامية، وهذا مفهوم، ولكن كيف يتجاهلان الموقف من النظام السوري، وكيف تغفر المشيخة المعارضة مواقف المشايخ المؤيدين بالرغم من تحولهم إلى بوق إعلامي لا يسلم منه أي معارض، وكيف تتجاهل المشيخة المؤيدة أي حديث عن المشيخة المعارضة، بالرغم من المواقف الصارمة للمشيخة المعارضة ضد نظام بشار الأسد وإجرامه.

من الواضح أن الخوف على هوية سوريا هو ما يضطر الطرفان إلى مهادنة بعضهم، وهو خوف مبالغ فيه، على أية حال، وليس له أساس واقعي لأنه لا يستطيع أي حاكم سوري مستقبلي أن يتجاهل أو يقلل من قيمة الدين الإسلامي في الحياة السياسية السورية. ولأن المزاج السوري العام لا يقبل إلا أن يكون الدين الإسلامي حاضرا في التأسيس لأي مرحلة جديدة لسورية. يذكر أن التخويف على الهوية لا يؤدي إلا إلى نظام حكم استبدادي كما يوضح مونتسيكو في كتابه ذائع الصيت “روح الشرائع”.

تعود معضلة المشيخة السورية المعارضة إلى أنها تقدم الأيديولوجية على حقوق السوريين السياسية، وتهتم بالصراع على السوريين أكثر من اهتمامها بالصراع من أجل السوريين، وإلى أن السوريين يثقون بهذه المشيخة أكثر مما تثق هي بهم.

مشكلة المشيخة السورية المعارضة أنها لا ترغب بأي خلاف بين سُنّة سوريا حتى ولو كان بين مؤيدين ومعارضين، لأن وحدة الصف السنّي هي الأساس. حتى أنه يمكن القول، وبكل شفافية وحزن، إن المشيخة السورية المعارضة تخاف من انقسام السوريين السنّة إلى مؤيدين ومعارضين لأن ذلك سيحول السوريين السنة إلى أقلية، وسيفقدون مكانتهم بوصفهم أكثرية دينية. في حين أن الانقسامات والاصطفافات التي يمكن أن تفيد الثورة، وتساعد جمهورها، هي وقوف السوريين ضد الطاغية وأعوانه أيا كان مذهبهم وانتماؤهم. وحدة الصف الحقيقية التي يجب أن يدافع عنها الجميع هي وحدة السوريين في وجهة الطاغية وكل من يواليه، وإدانة كل من يؤيده ويساعده، فما بالك بمن لا يكتفي بتأييد بشار الأسد بل يزيد على ذلك بتوظف مكانته الدينية لخدمة هذا النظام.

الأكثرية الحقيقية والمفيدة التي على المشيخة السورية المعارضة التفكر بها، والعمل على بنائها هي الأكثرية السياسية، وكل ما عدا ذلك أكثرية زائفة. حساب الأكثرية والأقلية الدينية في سوريا هي حسابات النظام الأسدي، ولا تخدم إلا مصالحه في تشتيت السوريين وتضييعهم في انقسامات وهمية، يعرف هو كيف يمسك بها.

لدى النخب الدينية السورية المعارضة مسؤولية تجاه الشارع السوري عليها أن تتحملها، مثلما لديها أوهام عليها أن تعيد النظر فيها. المسؤولية تتمثل في أنه لا يجوز أن تستمر بالتفكير بطريقة لا تراعي تضحيات السوريين ومواقفهم السياسية، سيما وأنها نخبة لم يكن له دور كبير في الثورة السورية، مثلما لم تتمكن من لعب الدور المطلوب منها في مواجهة ما يسمى عادة بالثورة المضادة. أما الأوهام التي عليه التخلي عنها فهي أنه ليس من المفيد للثورة التمسك بفكرة أكثرية السنّة في سوريا، ولا بد من السعي لتكوين أكثرية سياسية مرنة تضم جميع من هو مع الثورة بغض النظر عن مذهبه الديني، وتدين من هو مع النظام أيا كان مذهبه.

فالسياسة ليست سوى التفكير بالحرية والسعي إليها كما تقول حنة أرندت. ومن لم يخض صراعاته إلى النهاية، حتى مع نفسه، لن تغير تلك الصراعات شيئا في حياته، على حد تعبير إدغار موران.

المصدر: تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا