برهان غليون متحدثاً لـ”جسر” حول قضايا الساعة: “سيزر”، السويداء، الأكراد وخيارات نظام الأسد

شهدت الساحة السورية في الأسابيع والأيام الماضية، تحريكا للعديد من الملفات بعد أشهر من الجمود، وسط توقعات بتغيرات، وربما اختراقات، قد تشهدها عدة المسائل مرتبطة بالقضية السورية. صحيفة “جسر” حاورت المفكر السوري، الدكتور برهان غليون، واستطلعت رأيه وتصوراته بخصوص هذه الملفات التي تشغل بال غالبية المهتمين والمتابعين للشأن السوري.

جسر: حوار:

شهدت الساحة السورية في الأسابيع والأيام الماضية، تحريكاً للعديد من الملفات بعد أشهر من الجمود، وسط توقعات بتغيرات، وربما اختراقات، قد تشهدها عدة مسائل مرتبطة بالقضية السورية. صحيفة “جسر” حاورت المفكر السوري، الدكتور برهان غليون، واستطلعت رأيه وتصوراته بخصوص هذه الملفات التي تشغل بال غالبية المهتمين والمتابعين للشأن السوري.

المفكر السوري برهان غليون

ـ نبدأ بالوضع الأكثر إلحاحاً، وهو الانهيار الاقتصادي في مجمل سوريا، خاصة المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، وذلك على الرغم من عدم البدء بتنفيذ قانون قيصر، ما هو السياق التاريخي لهذا الانهيار، وما هو أفقه السياسي وعقابيله الاجتماعية المحتملة؟

 

من الواضح ان قانون قيصر جاء بعد تسع سنوات من محاولات المجتمع الدولي اليائسة لوضع حد للمأساة السورية وبدء مرحلة جديدة تنهي الحكم الدموي لبشار الأسد وبطانته المافيوية. والهدف منه وضع الأسد، الرافض دائما للخروج من السلطة، بعد أن دمر فرص أي حل وسط، أمام خيارين: البدء بترتيب رحيله مع الممثل الشخصي لبوتين، الذي عين في منصب ما يشبه الوصاية على قاصر، أو التردد والإنتظار حتى يسقط تحت ضربات أقدام وأحذية الجائعين والمشردين، في بلد جفت فيه كلّ منابع الحياة والأمل. وما نشهده اليوم هو جزء تمهيدي من مفاعيل أو تفاعلات قانون قيصر، أي هو من آثار الاعلان عن بداية تطبيقه القريبة. وربما ينهار الوضع الاقتصادي تماما وتخرج الناس إلى الشوارع مطالبة برحيل “بطل” هذه المأساة الدموية، غير المسبوقة في التاريخ قبل أن يصار إلى تطبيقه عمليا. وكل ذلك، أي ما نعيشه ونشهده الآن، يقع في إطار انهاء اسطورة الأسد السوداوية، ونظامه الكابوسي.

 

ـ انطلقت في السويداء مؤخراً حركة احتجاجية، عالية السقف، كيف تنظر إلى الظاهرة في سياقها السوري، وفي سياق ما سعى إليه النظام من خلال اصطناع “حلف الأقليات”، وما توقعاتك المستقبلية حيال هذا الحراك، وتحركات أخرى قد تنشأ على خلفية تدهور الوضع الداخلي في سوريا؟

قلت في أحاديث سابقة إن الثورة قد انتصرت في الوقت ذاته الذي نجحت فيه في الاستمرار وتحدي نظام القهر الأسدي، لأن نزول الشعب إلى الساحات والشوارع كان لوحده، بصرف النظر عما حصل فيما بعد وما يمكن أن يحصل، تجسيدا لإنكسار سيف الترويع والإرهاب، الذي اقام عليه الأسد سلطته، من خارج السياسة وبدفنها. بمعنى آخر كانت الثورة وتظاهرات المخاض الذي اعلن عن ولادة الشعب كقوة مستقلة وحرة وقادرة على الفعل. ومنذ ذلك الوقت، ولدت السياسة المغتالة من جديد، وتغيرت معادلة القوة، ولم تعد هناك سلطة مطلقة واحدة، تفرض إرادتها بقوة السلاح وأجهزة القمع، وإنما برزت في مواجهتها قوة جديدة ثانية غيرت قواعد اللعبة السياسية الى الأبد. منذ الآن تشكل الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات والمسيرات لغة الشعب السياسية الأولى والأساسية في مواجهة اي سلطة، وللتعبير عن إرادته الحرة التي قامت الديكتاتورية الدموية على إلغائها. وهذه هي في الواقع، حتى الآن على الأقل، هي الثمرة الوحيدة الناضجة للربيع العربي بأكمله. دخول الشعب إلى المسرح واكتشافه لغة السياسية، الابسط والأوضح والاقوى معا، أي التظاهرات الحاشدة، للتعبير عن إرادته الطالعة من تحت الارض. ومنذ الآن ولفترة طويلة قادمة ستكون هذه التظاهرات الجماعية والمسيرات الحاشدة، مصطلحات السياسة الأقوى تعبيراً عن التغيير الذي احدثته الثورة، وبشكل ما عن استمرارها أيضا، عبر قنوات النضالات السياسية المدوية. وعلى جميع من يتطلع إلى العمل السياسي في سورية المستقبل، وفي بلاد العرب جميعا، بعد اليوم، أن يتعلم الإنصات إلى أنغام هذه التظاهرات والحشود ووقع اقدام صناعها. فهنا تكمن السياسة، ومن هنا سيولد المستقبل. ستظل الشعوب تقاتل بأقدامها، حتى تحقيق جل مطالبها، بصرف النظر عن طبيعتها، أكانت مطالب سياسية، أو اجتماعية أو اقتصادية.

 

ـ وقعت مؤخراً على بيان يرفض انفراد قوات سوريا الديمقراطية بتقرير مصير ومستقبل الجزيرة السورية، من خلال اقتسام السلطة والثروات بين أحزاب كردية مختلفة، ووضع مبادئ دائمة لعملية صنع القرار، تستثنى بقية مكونات الشعب السوري، ما هي برأيك الطريقة الأفضل للتعامل مع المسألة الكردية في سوريا؟

ـ الكرد جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وضمهم الى مسيرة التغيير الثوري المنشود، والقادم، لا محالة مهمة رئيسية أيضا، تقع على عاتقنا وعاتق أي وطني سوري، بصرف النظر عن الخلافات التي برزت أو يمكن أن تبرز مع بعض التشكيلات السياسية الحزبية أو الحركات أو التيارات القومية المتشددة هنا وهناك. وكما أن علينا أن نتفهم تطلعات الكرد القومية عموما، أعني في سورية وغيرها من بلدان الجوار، علينا أيضا أن نصارح الكرد فيما يمكن للسوريين أن يقدموه من مساعدة لهم، وما لا يمكنهم فعله. وكما قلت في محادثاتي مع بعض ممثلي أحزابهم، إن الحل العادل للقضية الكردية العامة هو اقامة دولتهم القومية الواحدة، التي تعبر عن هويتهم وإرادتهم الجماعية.

لكن ليس بإمكان سورية والسوريين أن يجعلوا من تحقيق هذا الهدف أجندة سياسة وطنية سورية، أو أن يشاركوا فيها في الوقت الذي تتعرض سورية نفسها لانتهاك صارخ لسيادتها وتقاوم، كالعين في مواجهة المخرز، قوى الاحتلال المتعدد، وتكافح من أجل وحدتها واستقلالها وحرية شعبها. كما أنني لا أعتقد أن كرد سورية قادرين أن يحملوا عبء القضية القومية الكردية بأكملها، كما يحاول بعضهم أن يفعل الآن، لأن ذلك سيكبدهم خسائر لا طاقة لهم بها، من دون أن يكون هناك في المقابل أي أمل بتحقيق تقدم مهما كان.  ما تستطيع أن تقدمه سورية الحرة، القادمة لا محالة، هو حل عادل للقضية الكردية السورية، أي لمواطنيها الكرد السوريين، سواء برفع الغبن الذي كان واقعا عليهم، كما كان عليه الحال، في الواقع، على كل سكان المحافظات الشرقية، أو بتحقيق أمانيهم في أن يكون لهم حكم محلي ذاتي في المناطق التي يشكل فيها الناطقون بالكردية أكثرية بين السكان، بحيث يمكنهم إدارة شؤونهم وتعليم لغتهم والتفاعل مع ابناء جلدتهم.  وترجمة هذا الحل في سياق العمل المشترك بين جميع السوريين للخروج من المحرقة واعادة بناء سورية ديمقراطية تعددية هو أن يميز الكرد بين القضية الكردية، التي تعنى بمصير كرد سورية، وقضية الإدارة الذاتية الحالية التي تغطي مناطق واسعة، ليس ولا يمكن للكرد السوريين أن يكون لهم طموحات لضمها الى مناطقهم الذاتية. فالحل العادل الذي يضمن حقوق الكرد هو نفسه الذي ينبغي أن يضمن ايضا حقوق القوميات والجماعات الوطنية الأخرى.

بمعنى آخر مثلما يتوجب على السوريين الاعتراف بحقوق الكرد كمجموعة قومية متميزة في سورية، على الكرد السوريين أن يعترفوا أيضا بحقوق المجموعات الأخرى. وفي هذه الحالة لا يمكن اعتبار الوضع الراهن الناجم عن أزمة الدولة السورية حلا نهائيا، ينبغي تكريسه وانما هو تعبير عن سلطة امر واقع، ينتهي مفعولها حالما تستعيد سورية سيادتها، ويقرر الشعب السوري كشعب واحد مصيره، عبر مؤسساتها الشرعية التي يقرها باجتماع كلمة أطيافه القومية والدينية والمذهبية والمناطقية كافة، ويحدد شكل الدولة التي يريد انشاءها، مركزية أو شبه مركزية، أو اتحادية أو فدرالية. هذا حقه وهو صاحب قراره، ولا يمكن لأحد، جماعة او دولة أجنبية، أن ينتزعه منه، أو يتخذه مسبقا بدله. وبعبارة واحدة: مستقبل الكرد يقرره الكرد أنفسهم، أما مستقبل سورية والسوريين فحسمه من حق السوريين جميعهم.

 

ـ قال جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سوريا، قبل يومين من الآن، إن بلاده قدمت عرضاً لبشار الأسد للخروج من الأزمة الحالية، ماهو بتقديرك هذا العرض؟ وهل سيقبل النظام به لتخفيف عقابيل الضغط الأميركي على الشعب السوري؟

ليس لدي أي فكرة عن هذا العرض، لكنني أتوقع أنه يحمل تطمينات للأسد إذا قبل بالتخلي عن الحكم والرحيل الارادي. لكنني لا أعتقد أن الأسد يمكن أن يثق بأحد، بعد ما ارتكبه من جرائم لم يسبق لحاكم أن ارتكبها من قبل، في التاريخ. حصل أن دمرت جيوش الغزاة بلادا أجنبية لضمها إليها، لكن لم يحصل أن دمر حاكم بلاده على رؤوس سكانها. حتى المحتلين.

أعتقد أننا مقبلون على أحداث جسام، وأن ما بدأ بكارثة، أعني الحرب على الشعب للإبقاء على النظام، لن ينتهي إلا بكارثة ثانية، هذه المرة بخصوص النظام نفسه.

سيدرك العالم الذي تعامل مع بشار الأسد حسب فرضية الضغط عليه من أجل الإصلاح، ثم من أجل تعديل سياساته، أنه ليس أمام شخص قادر على المحاكمة العقلانية، والأخذ والرد وتبادل المصالح، وإنما أمام كتلة صلدة من الغرائز والأهواء، لا تترك لصاحبها إلا منطق رد الفعل والعناد والإنكار، ومع ذلك ادعو واتمنى وارجو، أن أكون مخطئا، وأن ينجح بشار في التغلب على مخاوفه وأوهامه واحقاده، ويقبل بعرض من يشاء، من الروس أو الامريكيين ويقرر أن يكتب فصل الختام بأقل ما يمكن من الدماء.

قد يعجبك ايضا