بوح سليم بركات ذاكرة للنسيان أم تأسيس لسيرة أخرى للشاعر الغائب؟

راشد عيسى*

محمود درويش وسليم بركات

جسر: ثقافة:

محمود درويش وسليم بركات

وصلَنَا سليم بركات، نحن بعض فلسطينيي المخيمات، فيما نتهجّى قراءاتنا الأدبية الأولى، محمولاً على سيرة محمود درويش، تلك التي كنا نلمّها أصلاً بأهداب العيون من مقابلات صحافية هنا وهناك، ومن بين سطور القصائد، أو من أبحاث ومقالات كتبت عنه، وأحياناً شهادات شخصية وأقاويل. ذهلنا بما عرفناه عن الشاعر الفتى الذي سحر درويش إلى حدّ التبني، ترى من يكون! كيف استحق أن يحتل هذه المساحة من “ذاكرة للنسيان”، الكتاب الذي روى يوميات حصار بيروت وفيه أشار الشاعر الراحل مراراً إلى “سين”، “ديك الحي الفصيح”! من هو هذا الشاعر المفتون بلعبة اللغة والعضلات والمسدسات؟

في خطوة تالية قرأنا “الجندب الحديدي- السيرة الناقصة لطفلٍ لم يرَ إلا أرضاً هاربةً فصاح: هذه فخاخي أيها القطا”، و”سيرة الصبا- هاته عالياً، هات النفيرَ على آخره”، (يمكن اختصار الأمر بالطبع إلى ما صدر لاحقاً تحت عنوان “السيرتان”، لكن تلك العناوين الطويلة كانت جزءاً من الفتنة). سرعان ما باتت السيرتان جزءاً من مفرداتنا ويومياتنا وسيَرنا، كنا نركض ونصرخ في الشوارع بأسماء وأمكنة شخصيات سليم بركات. الغريب أنها جاءت، هي البعيدة عنّا مسافة نحو ألف ميل إلى الشمال، مطابقة لمفردات حياتنا، ربما أكثر من مفردات درويش نفسه، حيث مخيمات الوحل والغبار والبنّائين والعتّالين.

حين يعيد سليم بركات اليوم، في مقالته المبنية كنص إبداعيّ “محمود درويش وأنا” (“القدس العربي-الأسبوعي” 06 حزيران 2020)، سرد سيرتهما التي تقع تقريباً بين صورتين، واحدة بالأبيض والأسود تعود إلى العام 1973 استعارها أخوه الأصغر “فحملها من بيروت إلى دمشق. اعتُقِلتِ الصورةُ، واختفت حتى يومنا هذا”، وصورة ملونة أخرى وصلتْه على الانترنت، من مشهد لقاء جمع الشاعرين “بجمهورٍ في السويد. صورةٌ ملونةٌ هي الثانيةُ أرانا فيها جنباً إلى جنبٍ”، فهو لا يقول سوى ما يعرفه القارئ المتابع، على الأقل لتجربة درويش وسيرته، وسيرة بركات جزء منها، حيث “ذاكرة للنسيان” وحصار بيروت، وتجربة العمل الصحافي-الثقافي، القصائد المتبادلة، قصيدة محمود درويش المهداة إلى بركات “ليس للكردي إلا الريح”، وتلك التي تصف بيته في السويد “في سكوغوس”، والقصيدة المقابلة “محمود درويش: مجازفة تصويرية”. النافر الوحيد في المقال هو حكاية الابنة المزعومة، إذ يقول بركات “ألقى عليّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده”. ثم أضاف قول الشاعر “لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”. أقصى ما يبوح به الشاعر السوري من الحكاية قوله: “محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها”.

يضيف الشاعر السوري الكردي، الذي عمل سنوات إلى جانب درويش في مجلة “الكرمل”: “أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، صارحتْه المرأةُ مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرتْ إبقاءَ ابنتها أملَ زوجها”. ويختم “محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها”.

واضح أن مسوّغ بركات لحكاية الابنة المزعومة هو حديث الأبوة، أبوّة درويش الممنوحة لسليم، ومن ثم لقاء درويش مع ابن الأخير: “في اللقاء الأخير على بوابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاءٌ،.. همس وهو ينظر إلى ابني ـ ابن السابعة عشرة: كسبتُ صداقةً جديدة. ابتسمتُ. كان أجدى لو قال: ها التقيتُ حفيدي”.

هنا، عند الحكاية/ السرّ، كان بإمكان الجميع أن يتغافلوا عن الأمر، إذ ما الذي يعنيهم الآن من اكتشاف ابنةٍ للشاعر؟ هل يبدّل ذلك من قيمة نصوصه الشعرية التي لطالما تغنينا بها جميعاً؟ هل يخفف من نضاليته في سبيل القضية التي بات أحد رموزها؟ ثم أليس من الشائع أن للشاعر معجبات وعاشقات أكثر مما يحتمل قلب شاعر، جميلات تمتلئ بهن القصائد؟ هل لدى أي منّا أمل بأن يرث نجل الشاعر، إن وجد، مكانته الأدبية ورمزيته؟ إذاً بإمكان القارئ أن يقفز عن الحكاية ليقول وما شأني أنا، ما شأننا جميعاً بذلك! أم أنه الفضول للصورة التي يمكن أن تكون عليها ابنة شاعرنا الأحب! قد يفيد أيضاً تذكّر جواب الشاعر في مقابلات صحافية بخصوص الإنجاب، ما معناه “ماذا لو أنجبت ولداً فظاً!”، ولعلّه كان يحاول بذلك دفع الفضول والإلحاح الصحافي.

كان بالإمكان التسامح مع الحكاية الفائضة في نص بركات لو كانت من دون أي مفاعيل على الأرض، لكن على الفور ظهر من يدفع إلى تصوّر حال البنت، إذ يقول الكاتب السوري الكردي هوشنك أوسي: “لا أحد فكّر في تلك الفتاة التي أصبحت الآن صبيّة. لا أحد فكّر في استمرار معاناتها، وخوفها من الجهر بحقيقة أبيها. لا أحد فكّر بألم ومعاناة تلك المرأة التي من فرط افتتانها بدرويش نامت معه وهي على ذمّة رجل، وقابل الشاعر الكبير ذلك الكرم من تلك السيّدة، بتجاهله ابنته. بدلاً من الالتفاتة إلى الأمّ وابنتها، الكلّ سارع إلى التكذيب وإنقاذ درويش وكأنّه يشارف على الغرق! وكأنّه مدان أو في خانة قفص الاتهام! الحقّ أنه ليس بركات من وضع صديقه في خانة الاتهام، بل الذين نصّبوا أنفسهم محامي دفاع، وترافعوا عنه، عبر النفي والتنكيل ببركات، بتلك الطريقة الشعبويّة الهزليّة”.

كذلك تكتب الإعلامية اللبنانية ديانا مقلد “عند الغيارى على درويش “القضية”/ القصة هي إثارة السرّ وكشف الخصوصية، ولا بأس في أن تحصل هذه القصة ومثيلات لها لكن لتكن بالسرّ! قلّة تكاد تكون معدومة توقفت عند الحقيقة المفجعة الوحيدة في هذه الحكاية، وهي الفتاة التي تملّص درويش من أبوتها (بحسب رواية الصديق)، والمرأة التي عليها أن تدفع بصمت ثمن علاقة يظهر فيها “الشاعر” موضع الرومانسي فيما تبدو المرأة (الأم والابنة معا) في موضع الملوث لتاريخ الأيقونة”.

الناشر السوري فايز علام يستعيد حكاية الابنة التي تخلّى عنها الشاعر الشهير بابلو نيرودا، كما وردت في رواية “مالفا”، إذ يكتفي الناشر الشاب بعبارة على لسان الابنة: “كل لحظة من وقته ينفقها من أجل إنقاذ حياتي هي لحظة ضائعة من الأدب والخلود”. كأن العبارة المريرة تريد أن تكون جواباً يقول بأهمية حياة الناس إزاء كل ما سواها من قضايا.

إذاً فإن الحكاية ومتاعبها لا تنفع لتزجية الوقت، ولا يجب الانصياع إلى مشجعي نشر السير الذاتية كنصوص موازية للنص الأدبي، والقائلين إن بإمكانها أن تضيء وتفسر وتحسم مقاصد النص، على صحة وضرورة كل ذلك. فهناك ما سيبنى على الحكاية في حال صحتها. من أبسطها مسائل الإرث الشائكة. إننا نعيش اليوم في زمن الكلّ ينبش فيه القبور، والكلّ يريد أن يحاكِم الكلّ بمفعول رجعي، ولا أدلّ على ذلك حين نشاهد تحطيم تماثيل مشاهير بسبب اكتشاف أقوال عنصرية في سيرهم الذاتية.

رغم مصداقية سليم بركات، وقربه وحبه للشاعر الراحل، لا نستطيع أن نسلّم بروايته، هذه التي تحتاج، حتى مع وجود أطراف القضية، إلى جهد قضائي كبير لإثباتها. كما حدث في حكاية الفنان التشكيلي المصري البارز عادل السيوي، وفي إنكار الفنان اللبناني زياد رحباني لولد يحمل اسم أبيه بعد أن بلغ سنّ الشباب. وفي الحالتين لم يكن من السهل إثبات الادعاءات أو نفيها إلا أمام المحاكم مع إجراءات عسيرة، رغم وجود مختلف الأطراف على قيد الحياة. فما بالك هنا أمام “أب” غائب، وأم وابنة مجهولتين أو مخترعتين للتو!

كما أن قولاً بهذه الخطورة، مع انعدام التوثيق، لا يسوّغ لصحيفة كبرى أن تضع مانشيتاً عريضاً يقول “فضيحة ابنة محمود درويش هل تشوه صورته لدى جمهوره؟”. هو أسوأ عنوان صحافي على الإطلاق بخصوص المقال، ومن المؤسف، فوق ذلك، أن من وضعه شاعر، أولاً لأن كلمة “فضيحة” تستجدي قراء الصحافة الصفراء، وثانياً لأن عبارة “ابنة محمود درويش” تحسم جدلاً بدأ للتوّ في ما يحتاج توثيقاً دقيقاً، ثم هل هي فضيحة “ابنة” محمود درويش فعلاً؟! وصولاً إلى السؤال الإيحائي، الذي يطمح، على ما يبدو، إلى تحريض القراء لاتخاذ اللازم: “هل تشوه صورته لدى جمهوره؟”. ومع أن المانشيت يعكس لسان حال الكثيرين ممن تعاطوا على هذا النحو مع الخبر، إلا أن التبني “المطبوع” يحوّل الخبر إلى ما يشبه الحقيقة (معلوم أن بعض الأخبار لا يمكن اعتباره خبراً إلا إذا نشر في جريدة، بل إن هناك من يعرّف الخبر الصحافي بأنه ما ينشر في الجريدة، سوى ذلك سيظل مجرد ثرثرة مهما بلغ من القوة).

 زلّة سليم بركات لم تورّط الشاعر الراحل ومحبيه فحسب، بل ورّطته هو بمواقف وآراء تجرأت على شخصيته قبل كتابته وموهبته. فأول وأبسط ردود الفعل جاء يكذّب حكاية الاعتراف الدرويشي من أساسه، ورغم أن بركات كتب نصاً مشغولاً في كل حرف ونَفَس فيه بحب صديقه الراحل، فقد كان سهلاً على البعض أخذه على محمل الانتقام (من دون أن يقول ممَ)، وفي معادل لطيف ومثقف للعبارة تحدث البعض عن محاولة لـ “قتل الأب”، وفي حالات كثيرة جرى الحديث عن تسلّق لاسم الشاعر الفلسطيني، كيف؟! والأخير نفسه قال كلاماً في صديقه الكردي لا يمكن أن تعثر على مديح مثله لشاعر: “كان محمود مذهِلاً في تلقائيةِ اعترافه، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثر بي”. وفي سيرة الشاعرين ما يثبت صحة العبارة.

ثم جاءت ردود الفعل التي وجدت فرصتها في الانقضاض على لغة الشاعر وأسلوبه “المتكلف”، و”الثقيل”، بل و”الركيك”..! إن كنتم تثقون بمحمود درويش، رمزاً وشاعراً كبيراً، فكيف لا تثقون بذائقته التي انتخبت قصيدة سليم بركات ووضعتْها في مكانة رفيعة. لا شك أن نصوص الشاعر السوري ذي الأسلوبية الفريدة ليست سهلة المنال، قد تستهوي ذائقتنا أو لا، قد تطلق مخيلتنا أو لا، ولعلها لا تنسجم مع ميلنا لقراءة شعر سهل ناعس يستدرج النوم، لكن لا يمكن بأي حال القول بخوائها وانعدام موهبتها. بعض الآراء المجحفة لا تعكس نقصاً في الذائقة وحسب، إنما لا يمكن إطلاقها من دون قلّة ضمير.

لم يكن ينقص قضايانا وأزماتنا المستعصية الحارقة، على ما يقول كتاب جادّون، إلا خبر من هذا النوع اهتزّ له الجميع تقريباً، هم المشغولون بمصير الكوكب وأوطانهم على الأقل. كان بالإمكان حذف الخبر، تجاهله، الاستخفاف به، لكن ما دام بلغ هذا الحدّ من التناول والذيوع فلم يعد ممكناً عدم الخوض فيه. كتب الكثير، واستعيدت سير وحكايات شخصية وسياسية غابت عن البال، ومن المتوقع بطبيعة الحال أن تفرّخ القصص قصصاً وأساطير.

_____________________________________________________________________________________

* نشر في القدس العربي السبت 13 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا

قد يعجبك ايضا