“بيت خالتي”.. عين على المسالخ البشرية في سوريا

محمد سبسبي

محمد سبسبي

تمثل قضية المعتقلين في سجون النظام بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين جرحاً نازفاً يبدو أنه مازال عصياً على الاندمال، بالنظر إلى الظروف السياسية الراهنة، وإن كانت مثل هذه القضية حاضرة بشكل شبه دائم في تقارير المنظمات الدولية ونشرات الصحف العالمية، فينبغي أن يكون حضورها أكثر ديمومة في مختلف أشكال الإبداع الثقافي والفني لاسيما الأدب الذي يعتبر حافظة لذاكرة الشعوب ومرآة تعكس قضاياهم وتطلعاتهم.

الشباب الثائر في مواجهة الخيبات

تستعرض رواية “بيت خالتي” للكاتب أحمد خيري العمري، والصادرة في أيلول من العام 2020، جزءاً من معاناة السوريين في مواجهة قضية المعتقلين والمختفين قسرياً، إذ يعثر يزن الغانم، وهو راوٍ داخلي وبطل القصة، على ابن خالته أنس خزنجي منتحراً في شقته في برلين، وكان الأخير ناشطاً في قضية المعتقلين وتوثيق شهادات الناجين، وقد تزامن انتحاره مع ذكرى الثورة السورية وفي ظل تزايد سيطرة النظام على المناطق الخارجة عن سيطرته وهو ما وجد فيه يزن، ذو الموقف المحايد أو الرمادي تجاه الثورة، “رسالة نعي للثورة لا يريد جمهور الثورة أن يقرأها”. يقرر يزن، وهو طبيب نفسي، البحث عن الدوافع التي أدت بأنس إلى الانتحار رغم أنه لم تكن تصدر عنه أية سلوكيات يمكن تفسيرها على أنها دوافع انتحارية، فيقوده البحث إلى الكثير من الأسرار التي يجهلها عن ابن خالته، ليكتشف أنه كان يعمل خلال السنوات الأخيرة على إعداد فيلم وثائقي عن المعتقلين والناجين مع صديقته نور النجار، التي بالرغم من أنها “قبيسية وثورجية و فمنست” وهو “رمادي” إلا أنه يعجب بقوة شخصيتها وصلابتها النفسية، ثم يجد نفسه واقعاً في حبها.

تتجلى في شخصية أنس صورة كثير من الشباب السوري الثائر، فقد “أصابته عدوى الثورة” منذ البداية فانخرط بها، وراهن عليها فضحى بمستقبله من أجلها، تعرض للملاحقة والاعتقال فاضطر للمغادرة و أصبح لاجئا لكنه لم يتخلَ عن قضيته، كان “ينتمي للثوار لا للمعارضة، وكان يشتم كل أطياف المعارضة بلا تمييز”، ساهم من موقعه في كل ما يمكن أن يفيد الثورة، فعمل على قضية المعتقلين والناجين، فأثارت قصص معاناتهم لديه الكثير من الأسئلة التي “هددت إيمانه”، و سلبته الخيبات المتتالية كل ما بقي لديه من أمل، فلم يجد طريقا للخلاص إلا بالخلاص من الحياة نفسها! لم يطق الانتظار لتباغته جلطة دماغية أو سكتة قلبية كما الكثير من النشطاء، قرر حسم الموقف بنفسه.. فانتحر!

الهولوكست الأسدي كوريث للنازي

يطّلع يزن على أجزاء من “الفيلم الوثائقي”، الذي أعده أنس ونور، وما فيه من شهادات لناجين وناجيات من معتقلات الموت الأسدية، الأمر الذي أسهم في تحول موقفه تدريجيا إلى تأييد الثورة واعتبارها قضية عادلة. شكّل هذا الفيلم المتخيَّل أحد الأركان الأساسية في البناء الروائي، وتمكّن الكاتب عبره من طرح أهم الأفكار والتحليلات النفسية حول ضحايا الاعتقال وجلاديهم في معتقلات النظام، فالفيلم/الكاتب يسهب في المقارنة بين جرائم النازيين والأسديين التي لايجادل كثير من السوريين بأنها هولوكوست أسدي يقترب ببشاعته أو يكاد من الهولوكوست النازي، وإن كان ثمة اختلاف بينهما فهو بالكمّ لا بالنّوع، وربما يغيب عن كثير من السوريين أن نظامهم استقدم خبرات نازية ساهمت في صقل خبراته في فنون التعذيب ووحشيته عبر شخصية “ألويس برونر” أحد رجالات هتلر ومخترع “شاحنات الغاز”، الذي هرب من ألمانيا بعد سقوط النازية وتخفّى في سوريا ليعمل مستشاراً خاصاً لحافظ الأسد، وينقل لرجاله الخبرات والتجارب التي مارسها في معسكرات الاعتقال، ومنذ ذلك اليوم يبدو أن المعتقل “لم يعد مكاناً للاستجواب ولم يعد التعذيب وسيلة لانتزاع المعلومات، هذا للسجون العادية. بيت خالة السوريين تجاوز هذا تماماً، أصبح مصنعاً للقهر والذل وتجريد البشر من إنسانيتهم”، وهذا ما تؤكده عدد من الشهادات الحقيقية، التي يروي أصحابها ما عاينوه من عمليات تعذيب جسدي ونفسي ممنهج إلى جانب الإذلال والنيل من الكرامة الإنسانية، وإذا كان “حظ ضحايا الهولوكست النازي جيداً لأن النظام الذي اقترف جريمته هُزم وانهار، فإن ضحايا آخرين لم يكن لهم الحظ ذاته” لأن “التاريخ في سوريا يسير في الاتجاه الخاطئ”، وإن لم تكن مثل هذه المقارنة جديدة إلا أنها بدون شك تحشر المنكرين “في زاوية ضيقة”.

وفي نظرة فنية سريعة نجد أن الرواية نجحت في الإفلات من الوقوع في فخ السيرة الذاتية أواليوميات، وهي سمة طبعت معظم النتاجات الأدبية التي تندرج تحت أدب السجون، رغم استعراضها لشهادات الناجين التي وظفت بطريقة فنية ضمن البناء الروائي، إلى جانب تقارير لهيئات ومنظمات حقوقية. وفي حين أظهر الكاتب العراقي معرفة واسعة بأدق تفاصيل المجتمع السوري عموماً والدمشقي بشكل خاص، إلا أن هذه المعرفة غدت استعراضية في بعض المواضع وأقرب للحشو غير المبرر فنياً، لاسيما عند الحديث عن البيئة الاجتماعية والدينية في دمشق والتنافس المناطقي المحموم لدرجة الهوس بين الشخصيات، كذلك بدا “النفَس الدعوي” للكاتب واضحاً ممثلاً بشخصية “كنان” الذي يمثل صوت “المؤمن المثال” الذي يطمح إليه الكاتب أو يطرحه كحل آمن للأزمات النفسية التي تعصف بالناشطين وتجنبهم النهاية المأساوية لشخصية “أنس”. على أن تعدد الأحداث الجانبية وحبكاتها الثانوية ساهمت في إضفاء طابع تشويقي، إلى جانب قصة الحب التي ربطت يزن بنور، وبينما كانت الواقعية غالبة الحضور في معظم صفحات الرواية كانت النهاية مغرقة في المثالية، حيث يصرّ بطل الرواية “الرمادي” على الزواج من ناشطة ثورية و معتقلة سابقة تعرضت للاغتصاب، ويرى فيها شخصية قوية وحبيبة لا تعوّض! وهو ما يبدو موقفاً تطهرياً من آثام المواقف السابقة، وغير مألوف في الواقع و يثير تساؤلاً محقاً: هل كان على الشباب الثائر أن يضحي بحياته حتى تقتنع الفئة الصامتة أو الرمادية، بعدالة الثورة وأحقية مطالب الثائرين؟! لكن أياً مما سبق لا يقلل من أهمية الرواية كعمل أدبي يطرح موضوعاً يلامس وجدان الكثيرين وجراحهم، ووثيقة جديدة تحفظ جزءاً من ذاكرة السوريين المعمّدة بالدماء!

وأخيراً لا بد من ملاحظة أن عبارة “بيت خالتي” كتورية عن السجن أو الاعتقال وإن كانت مناسبة في سياق الحوادث الجنائية وقضايا الفساد قبل الثورة، إلا انها لم تعد تتسع لاستيعاب حجم الوحشية التي يبتدعها جلادو النظام في المسالخ البشرية، ربما تكون عبارة “وراء الشمس” أكثر إحاطة بكل هذا الألم!

قد يعجبك ايضا