تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 2/3

جسر – محمد سبسبي

تعتبر المواد الغذائية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها أمام التبغ والقهوة. ربما يكون التقييم صحيحاً لكن ليس بالنسبة لمدخن شرهٍ مثلي منذ أكثر من عشرين سنة، ولا أخفي أن الأمر وصل بي في بعض الأحيان للاختيار بين تأمين الطعام والتبغ، ففي ظل الحصار كان التدخين أكثر من سيجارة تحترق ونيكوتين يهدئ الأعصاب، كان دخاناً يُنفث فتتلاشى معه آهات من القهر والعجز والحرمان، لكنه على أية حال، كان يُسكّن إن لم يعالج، وكان للبعض كالماء البارد على ظمأ طويل.

سرعان ما ارتفع سعر التبغ وتجاوز العشرة أضعاف، فغدا ثمن بعض أنواع السجائر 100 ألف ليرة، أي أكثر من 200 دولار، ووصل الأمر ببعض المدخنين أن استبدل بسيارته “كروز” دخان (12 علبة)! أما عني أنا، فكنت أقل تهوراً من أقراني المدخنين، فكان أكبر مبلغ دفعته 3.500 ليرة سورية، لقاء سيجارة واحدة من نوع “يونايتد”، رديء الجودة، ويبقى ثمناً بخساً مقابل حياتي التي كدت أخسرها، إذ كان عليّ أن أقطع رحلة خطرة معرضاً نفسي لأكون طعماً سهلاً أمام قناص حي الإذاعة! ومرة فُقد التبغ فاشترينا “التتن” من حي الفردوس ورحنا نلفّ السجائر يدوياً وما إن أشعلت السيجارة الأولى حتى عجّت رائحة غريبة في المكان، وكأن حريقا اندلع في يوم خريفي بارد، لم يكن ما ندخنه تبغاً ولا يشبهه إلا في الشكل، كان ورق شجر يابساً! أتذكرون يا شباب؟ أربعة صواريخ محملة بمظلات استهدفت سوق الفردوس أثناء محاولتنا الحصول على “التتن”، لكننا..نجونا!

أمام الإدمان والحرمان ابتكر مدخنون طريقة جديدة للحصول على سجائر عبر نهر قويق، وهو ممتد من مناطق سيطرة النظام إلى الأحياء المحاصرة، وكان ذا سمعة سيئة، فقد كان شاهداً على مجزرة بشعة ورهيبة عرفت بمجزرة النهر، ومن يومها حمل اسم نهر الشهداء. هذه الطريقة تقتضي التنسيق مع أقارب أوأصدقاء يقطنون في مناطق سيطرة النظام، لتعبئة عبوات بلاستيكية بالسجائر وكتابة اسم المرسَل إليه على قصاصة ورقة قبل إغلاقها ورميها في النهر، تدفعها المياه فإن وصلت تسلمها ذووهم في الطرف المحاصر. نجحت الطريقة وحصل بعض المدخنين على مؤونتهم لكنّ مؤونتي لن تصل، وبعد أسبوعين ستكتشف قوات النظام هذه الحيلة وتعمد إلى وضع شبكة تخترق المياه لتحجز ما يرمى لنا من فُتات وتمعن في حرماننا من بضع سجائر تطيب خواطرنا. ومرة حصلت على بعض سجائر النهر المبللة ودخّنتها بشراهة خلال جلسة واحدة، احتفالا بنجاتي من صاروخ كاد يشطرني نصفين!

كما أن طقس “المجدرة” لا يكتمل بدون بصل، كذلك لا يطيب التدخين إلا بالقهوة، أو الشاي على الأقل، وهو أمر لا ينكره مدخنٌ محترف. ولشدة هذا التشابك بينهما فقد ندُرت القهوة كما الدخان، وغدا الحصول عليها، وفق المذاق الذي نعرفه، ضرباً من المحال، لكن المحاصرين لم يعدموا أن يجدوا لها بديلاً، وإنْ في الشكل فقط. فقد عثر صديق 200 غرام من القهوة بعد بحث مضنٍ، ولما كنا نعتبر توافر القهوة مع الدخان في وقت واحد هو مناسبة عظيمة تستحق الاحتفال، ضربنا موعداً للسهرة في ذلك المساء، ومع أول رشفة تفاجأت بمذاق حلوٍ لا يليق بفنجان قهوة بعد كل هذا الغياب، استنكرتُ على صديقي الذي تفاجأ وذكرني بأننا لم نجد أثراً للسكر منذ أسابيع. عرفنا فيما بعد أن ما شربناه كان عبارة عن نوى تمرٍ مطحون ومخلوط ببعض “الهال” يخدع بها التجار الزبائن أمثالنا من مدمني القهوة.

موسيقا في مواجهة الحصار

لا أبالغ إن قلت إن الموسيقا كانت أفضل دواء لي في هذا الحصار، وهذا بالطبع ليس فزلكة او كلام مثقفين بل واقع عشته وشعرته. بعد كل حملة قصف وما يخلفه من رعب وهلع ومع استباحة الموت وطغيان الفقد على كل شيء في حياتنا، كان الأورغ، آلتي البسيطة، ملاذي الذي يحميني من جحيم العجز والقهر الذي لا أجد قدرة على مواجهته، ويحفظ لي اتزاني النفسي، كان أشبه بدواء ذي مفعول سحري يسكّن كل آلامي المتراكمة في نهاية كل يوم.

لم أكن أشعر وأنا أعزف إلا أنني، برفق ودون معارك، أفك الحصار، أفاوض وأعقد الهدن، أنزع السلاح وأنشر السلام، أداوي الجرحى وأعيد للشهداء بسمتهم، أمسح دمع اليتامى و أجبر كسر الأرامل، وكلما طال العزف وصدحت الموسيقا تلاشت الحواجز وانبسطت الطرقات، صمتت الأسلحة وغفا الجنود. يشبهني الأورغ في كل شيء تقريبا، فهو بسيط، شعبي، رخيص الثمن، يؤدي كل الألحان بكل الأصوات بارتجال متقن ودون شكوى، ويؤمن بحقه في الوجود بالرغم من سطوة البيانو والكمان! ولأحتال على فقدان الكهرباء أجريت تعديلات في نظامه الكهربائي فغدا يعمل على بطارية تُشحن من حين لآخر.

غابت الكهرباء طويلاً ذات مرة وصمت الأورغ لعدة أيام، قادني الإدمان إلى التهور، فلم يكن بين يدي من حل سوى تشغيل السيارة المنسية، والتجول في الشوارع تحت نيران القصف دون هدف سوى شحن البطارية بالكهرباء، ووصلها ببطارية الأورغ، ودار في خلدي يومها، ماذا لو قتلت في غارة جوية الآن؟ أي قلب قاس لهذا الطيار الذي يرمي الحمم وهو يعلم أنه قد يقتل عازف أروغ؟! أعرف أن هذه فزلكة يختص بها المثقفون والشعراء.. لكن بصراحة، إنها جميلة!

نعم، حدث كل هذا لكنني.. نجوت!

تصفية حساب مع الذاكرة.. يوميات الحصار في حلب 1/3

قد يعجبك ايضا