تهافت المعارضة السورية: الاسترزاق!

 

حدثان شهدتهما الساحة السياسية السورية المعارضة في الأيام القليلة الماضية، يستحقان من المعارضة بشقيها العسكري والسياسي، “التوقف” وتفحص المكان و”المكانة” التي وصلت إليها.

الحدث الأول سياسي، ويتمثل في جلب المملكة السعودية، الراعي العربي الأول للمعارضة السورية، نحو 80 شخصاً، إلى الرياض لعقد مؤتمر، الغاية منه تقويض كل من “الائتلاف” و”هيئة التفاوض”، وتهافت فئة جديدة من المعارضين الذين لم يُمنحوا أدواراً سابقة للقيام بهذه المهمة بحماس اجتمعت فيه الرعونة مع الانتهازية وقلة الخبرة، لتنتج مشهداً كاريكاتورياً مخجلاً، إن لم يكن مخزياً.

بدورهما، لم يكن “الائتلاف” و”الهيئة العليا للمفاوضات” أفضل حالاً، فطريقة تشكيلهما، والتهافت الذي ترافق مع تعيين الأعضاء، لا يقل في تجاوزه لأبسط القيم المؤسسة للعمل السياسي الوطني، ما اقترفه أعضاء مؤتمر “الرياض 3”. إذ أن من حلّوا في واجهة “الرياض 2″، جاؤوا إلى مناصبهم في الواقع بعد اطاحتهم برفاقهم في “الرياض 1″، فجاء من يطيحهم بطريقة أكثر صفاقة. وهكذا محطة بعد محطة يصبح العمل السياسي المعارض أكثر انحطاطاً، وواجهات المشهد أكثر رخصاً واستتباعاً.

على المقلب الآخر، تتوارد أنباء تتزايد مصداقيتها يوماً بعد آخر، حول إرسال تركيا لعدد كبير من مقاتلي المعارضة المرتبطين بها إلى ليبيا، لقاء رواتب تبدو عالية مقارنة بما يحصده هؤلاء المقاتلون في سوريا، لقاء “الاسترزاق” في معارك تركيا داخل سوريا، ضد “حزب العمال الكردستاني” وذراعه السوري.

مسؤولية وقوع هذين الحدثين في النهاية، أو ما أوصل السوريين إلى حضيضهما، تقع على أطراف الدول الراعية للمعارضة، التي هوت بها إلى مصاف الأداة والاسترزاق، سواء من حيث اختياراتها أو توجهاتها، أو الأفق الذي تضع فيه تلك المعارضة. لكن النصيب الأعظم من المسؤولية يقع على المعارضة ذاتها، وعلى نخبها المنكفئة بالدرجة الأولى.

ليس صحيحاً على الاطلاق إن من نشاهدهم في “هيئة التفاوض” أو “الائتلاف” أو “الرياض 3″ هم الفئة السياسية السورية المعارضة. يكفي ان نلقي نظرة على الأسماء التي قادت تلك المعارضة في السنتين الأوليين من الثورة، ونتساءل أين أصبحوا؟ يكفي أن نبحث في الآلية والمعايير التي صعدت بها الفئة الحالية لنفهم أنهم ليسوا الأفضل، بل ربما الأكثر استعداداً لتقديم التنازلات للجهات الداعمة و”الضامنة” على حساب القضية الوطنية. هناك مجموعة كبيرة من الكفاءات والشخصيات والتجمعات، التي تمت ازاحتها من المشهد كلياً، بفعل فاعلين، أو أنها اختارت بذاتها النأي عن الصراع الداخلي على المكاسب والمغانم، الذي وسم مؤسسات المعارضة منذ ولادتها سنة 2011 وحتى اليوم، بدافع من احترام تلك الشخصيات لذاتها، أو لقيم العمل السياسي الوطني، أو حفاظاً على رصيدها وسمعتها، بانتظار “نضج الظروف”، التي يبدو أنها لن تنضج كما يأملون، إذا ما استمرت الأمور على هذا المنوال من التنازع التنازلي.

ليس صحيحاً أيضاً، إن الفئة السياسية السورية الحقيقية غير قادرة على فرض نفسها، وطرد “العملة السيئة” من التداول. فالمشهد الشعبي مقروءاً في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام البديل، ينبئ بأن الكتلة الشعبية تبحث عن الأجود والأكثر أصالة. وهي تنبذ الظواهر العبثية التي تطرأ كل يوم، وتُسخّفها وتنكرها، وهي مستعدة وقادرة على إنتاج الحقيقي، بشرط منح سوريا ومستقبلها الأولوية في الأجندة لا استخدام ذلك لقاء سلطة محتملة، أو منصب مرتقب.

ليس صحيحاً أيضاً، إن العزوف عن الانخراط في العمل بظروفه الحالية، يرفع من حظوظ المترفعين في زمن آخر، وليس من ضمانة بأن الجمهور السوري سيقف عند باب أحد من السياسيين متوسلاً إليه أن يهبط إلى ميدان لعمل السياسي لإنقاذه من المآزق التي حشره فيها الانتهازيون وراكبو موجة الثورة وأمراء الحرب. إذ أن نتائج أي سيرورة اجتماعية/سياسية، لا تنفصل عما حدث خلالها، وغالباً سيبقى المترفعون في عليائهم المتوهمة، بعيداً عن الأرض، والفعل والتأثير، ولن يسمع أحداً بهم أو لهم.

في الأيام القليلة الماضية، أصدّر عدد من السياسيين والمثقفين والنشطاء السوريين بياناً مضاداً لعمليات تجنيد المقاتلين السوريين في ليبيا، بدأ الأمر بنحو 10 موقعين، وفي ساعات قليلة قفز العدد إلى نحو 800. وكان الأكثر إثارة للدهشة هو عدد الموقعين من تركيا، التي وجه البيان في الواقع لها، استنكاراً ولوماً، وأحدث ذلك نوعاً من حملة مضادة للاسترزاق، بالمعنيين الأخلاقي والسياسي، ساهمت إلى حد بعيد في كبح جماح جماعات وافراد، ووضع حدا لسلوكهم المتهافت، لا على الصعيد العسكري وحسب، بل والسياسي أيضاً.

والغاية من سوق هذا المثال هو طرح تساؤل عن السبب الذي يمنع المعارضتين السياسية والعسكرية من البناء على هذا النموذج الايجابي أو آخر مثله، تدريجياً، وبوعي عميق وثابت، ليبدأ من مناهضة الاسترزاق السياسي والعسكري، صعوداً إلى الدفاع عن استقلالية الإرادة والقرار السوري، ووصولاً إلى صياغة وصيانة مفهوم وقيم الكرامة الوطنية، التي يجري امتهانها يوماً بعد يوم، لصالح ولاءات حزبيه ضيقة، أو مكاسب شخصية بائسة.

كلمة السر البسيطة والواضحة، لخروج المعارضة السورية من متاهتها، التي أدخلت جمهور الثورة فيها، هو “التنظيم”، بمعنى تنظيم قيمها وأولوياتها مجدداً، وتنظيم قواها وامكانياتها ومواقع اشخاصها، ونبذ “العملة السيئة” من ميدان السياسة والعسكرة المعارضة، قبل أن تطردهم جميعاً، ليصبح الميدان بالفعل خالياً لنظام الأسد، الذي سيصبح مطلب إعادة تأهيله، لا مطلباً لبعض القوى الإقليمية والدولية وحسب، بل حاجة اجتماعية وسياسية سورية داخلية.

المدن ٣٠ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا