حقيبة الضابط “الدبلوماسية”

ماهر شرف الدين

 

جسر:صحافة:

في هذه القصة، الحقيقية والمأخوذة من وقائع خدمتي العسكرية الإلزامية، أعتمدُ تسمية “الدبلوماسية” للحقائب التي تحمل ماركة “سامسونايت” لأنها التسمية الشعبية لها في سوريا.
في القطعة العسكرية التي أدَّيتُ فيها الجزء الأكبر من خدمتي العسكرية الإلزامية (1996 – 1999)، كان هناك الكثير من الحقائب الدبلوماسية في أيدي الضبَّاط. بعضهم كان يحملها بنفسه وكأنها تحمل أسراراً عسكرية خطيرة، وبعضهم كان يأمر الحجَّاب بحملها والسير خلفهم في استعراض طاووسي للمعان الجِزَم في أرجلهم والرُّتَب على أكتافهم.
لكنَّ ضابطاً مسكيناً كان لا يملك واحدةً منها، بل كنَّا أحياناً نلمحه حاملاً أغراضه في كيس من النايلون من ذلك النوع الذي تُحمَل فيه مشتريات الخضار والفواكه.
وكان هذا الضابط مسالماً متواضعاً إلى درجة لا تُصدَّق مقارنةً ببقيَّة الضبَّاط العنجهيين المتشاوفين، حتى أنه أطلعنا –حين كان يأتي للسهر معنا في المهجع- على نسخة من طلبٍ غريبٍ كان قد تقدَّم به إلى قيادة الجيش لتسريحه، مع ذكر سبب الطلب وهو عدم أهليَّته ليكون ضابطاً!!
وقد زاد من تعاطفنا معه وضعُه المادّي المزري، حيث إنه كان في وظيفة إدارية لا تسمح له بالاستفادة من شيء، ورئيسه في القسم كان دائم التوبيخ له مستغلَّاً أنه ضابط “غير مدعوم”. وغالباً ما كان يطرق باب مهجعنا، وفي أي وقت من الأوقات، طالباً “راس بصل” أو “زرّ بندورة” وغير ذلك من الحاجيات البسيطة. ولكثرة ما كان يطلب “زرّ بندورة” لقّبناه في ما بيننا بـ”أبو زرّ”، تهكُّماً على هذا المصطلح الجديد علينا لحبَّة البندورة.
وكان دائم التذمُّر والانتقاد لكلّ شيء، وقد أَمِنَّا جانبَه إلى درجة أنني ذات يوم مرَّرتُ أمامه نكتةً تتعلَّق بلهجة أهل الساحل، وقد ضحك عليها، ثمَّ زادَ نكتةً ثانيةً.
وطالما سخر من الحقائب الدبلوماسية التي يحملها زملاؤه الضبَّاط، مُقسِماً لنا أنها مليئة بمسروقاتهم من المطبخ:
“العقيد فلان الشنتاية تبعه بتظلّ معباية لحمة هبرة، ريحتها صارت بتقرّف. والرائد فلان أبيسرق إلا السكّر والرزّ لأنو أهله عندن دكَّانة بالضيعة. والنقيب فلان مسكين يا دوب تلاقي بشنتايته ربطتين خبز وشوية خيار وبندورة…”.
وهكذا كان يُقدّم لنا ما يشبه النشرة اليومية عن محتويات الحقائب الدبلوماسية التي يحملها زملاؤه الضبَّاط.
إلى أن أتى ذلك اليوم الذي لم يخطر في بال أحدنا أنه سيأتي! حيث انقلبت حال هذا الضابط رأساً على عقب بعدما تسلَّم قريبٌ له منصباً كبيراً في قيادة الفرقة العسكرية التي كان يتبع لها لواؤنا.
ومن ضابط هامشي في أحد المكاتب الإدارية تحوَّل ضابطنا الطيّب إلى مسؤول عن باب اللواء وسجنه! ومن ركوب “باص المبيت” الأخضر إلى ركوب سيَّارة خاصَّة مع سائق خاصّ. ومن حمل كيس نايلون لحمل الحاجيات إلى حمل حقيبة دبلوماسية.
ولكنْ، مهما بلغ حجم مفاجأتنا حينذاك بانقلاب حال هذا الضابط، لم يكن ليساوي شيئاً بالنسبة إلى حجم مفاجأتنا بانقلاب تعامله معنا!
فمنذ الأيَّام الأولى لتسلُّمه المنصب الجديد بدا واضحاً أنه يريد، وبأيّ ثمن، محوَ الصورة السابقة له في أذهاننا، حتى تحوَّلنا –حَرْفياً- إلى ضحايا لهذا الهاجس الذي بات يسيطر على عقله!
صار يخترع الذرائع لاستعراض سلطته علينا، وصار يتقصَّد القدوم إلى مهجعنا مع جنوده وإلقاء محاضرات الانضباط علينا. والويل ثمَّ الويل لمن لا يُقّدم له التحية العسكرية بالطريقة الـمُثلى، بعدما كنَّا نُسلّم عليه مصافحةً وكأنه واحدٌ منَّا.
ولم تمضِ بضعة أيَّام أُخَر حتى راح يُهدّدنا بالسجن، ولأسباب مختلَقة وكيديَّة. وأذكر أنه ذات يوم رآني صدفةً على الطريق فقال لي بما يشبه التوعُّد: “عم تتمسخر على لهجة السيّد الرئيس”!! في تذكيرٍ لي بالنكتة التي سبق أن رويتُها أمامه، ممازحاً، عن لهجة أهل الساحل!
ولأنَّ هذه التحرُّكات والاستعراضات لم تشفِ غليله، ولأنه كان ما يزال يشعر بأننا لم نتبنَّ صورته الجديدة بما يكفي، طلب من رؤسائنا السماح له باستدعائنا إلى مكتبه لإعطائنا بعض التعليمات بخصوص الانضباط.
وبسبب كثرة عددنا، انتظرناه خارج المكتب بمحاذاة سجن اللواء الذي صار تحت إمرته، قبل أن يخرج إلينا الحاجب مذعوراً، طالباً منَّا الاصطفاف بشكل نظامي ريثما يخرج “المعلّم”. وبعد أكثر من نصف ساعة من الوقوف تحت الشمس الحارقة، خرج الضابط علينا وفي يده حقيبة دبلوماسية كتلك التي يحملها زملاؤه الضبَّاط، سائلاً إيَّانا بغضبٍ مفتعَلٍ: “بتعرفوا شو في بهالشنتاية؟”.
ولا بدَّ أنَّ أول ما تبادر إلى أذهاننا هي مسروقات المطبخ من خضار وفواكه ولحوم، ولكن هيهات أن يجرؤ أحدنا، يومذاك، على الإجابة بمثل هذا الجواب.
وعندما ساد الصمت ولم يجب أحدٌ على سؤاله، تابع قائلاً وهو يرفع الحقيبة في الهواء إلى مستوى صدره: “فيها ملفّ لكلّ واحد منكم. ملفَّاتكم كلها بهالشنتاية. ويا ويلكم ويا سواد ليلكم!”.
ثمَّ أَمَرَنا بالانصراف.
قد يعجبك ايضا