هل دفعت واشنطن أنقرة للتقارب مع الأسد؟

عبدالناصر العايد

جسر: رأي:

يصعب تخيل تقارب أنقرة مع نظام الأسد من دون تشاور وموافقة من واشنطن، إذ على الرغم من كل التوترات الظاهرة في علاقة الدولتين دبلوماسياً، تبقى تركيا شريكة واشنطن الوحيدة في الملف السوري، أمام هيمنة طهران وموسكو. أما أنقرة، فهي ليست في غنى عن رضا حليفها الأطلسي الذي يجعل موقفها أقوى أمام شريكَي آستانة، ناهيك عن مصالح استراتيجية أخرى تجعل من التنسيق مع القوة الدولية العظمى وأخذ مباركتها، أمراً أكثر من بديهي.

إن الذهاب قدماً في هذا التصور والبحث في خلفياته قد يفسر، مع أمور أخرى بالتأكيد، الانعطافة التركية المفاجئة نحو نظام الأسد. إذ أن التغير الجوهري الوحيد الذي سيغير موازين القوى ويدفع الرئيس التركي طيب رجب اردوغان إلى تغيير مواقفه الراديكالية، لا يمكن أن يكون سوى انسحاب أميركي من شرق الفرات، تحاول واشنطن قدر استطاعتها ألا يذكِّر الرأي العام العالمي بانسحابها الفوضوي من أفغانستان. بمعنى آخر، لا تريد للقوة الكردية أن تُسحق في صِدام غير متكافئ مع خصومها، سواء كانوا النظام وحلفاءه، أم تركيا، خصوصاً أن قوات سوريا الديموقراطية تحتفظ بورقة سجناء تنظيم داعش الخطرين في عدد من السجون، وبعشرات الآلاف، وسيتسبب إطلاقهم بحجّة هجمات حقيقية أو مزعومة على تلك القوات، موجة هستيريا دوليّة، سيصعدها مئات آلاف المحتجين من الأكراد في الدول الغربية.

والسيناريو المفضل لواشنطن، من أجل انسحاب بلا ضجيج، هو مصالحة بين “قسد” ونظام الأسد مع حليفيه الإيراني والروسي، يعفيها من المسؤولية الأخلاقية أمام هذه القوات التي تحالفت مع “الأعداء”، ويجعل انسحابها آمناً بهذا المعنى. وهي لم تتوقف عن دعوة موفدة “قسد” الدائمة إلى واشنطن، إلهام أحمد، إلى المضي في هذا الاتجاه، بعدما أبلغتها منذ سنة بأن القوات الأميركية ستؤجل انسحابها حتى نهاية العام 2022، وهو ما بدأ فعلياً وبشكل معلن قبل نحو شهر، عندما دفع النظام بجزء من قواته لمساندة “قسد” على الحدود التركية.

انسحاب واشنطن من سوريا يمكن مقايضته من ناحية أخرى بمكاسب الثانوية، نعرف منها إطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس، وربما كانت هناك صفقات إضافية ربما تتصل بالملف النووي الإيراني، حيث تتزامن التطورات الأخيرة في الملف السوري مع أنباء عن تقدم في المفاوضات النووية بين الدول الغربية وإيران.

هذا السيناريو هو الأفضل أيضاً بالنسبة لأنقرة، فهي تدرك جيداً أن لا جهة تستطيع تقويض مشروع الحكم الذاتي الكردي، سوى نظام الأسد. والأخطر، أن هذا النظام يستطيع أن يمنحه الحياة، فيما لو وافق، ونكاية بتركيا، على إقامة منطقة حكم ذاتي محدودة للأكراد في منطقة الشريط الحدودي، محمية بالسيادة السورية والحضور العسكري الروسي والايراني.

هل يعني هذا أن الولايات المتحدة ستتخلى عن الشأن السوري لصيغة حل إقليمي؟ يمكننا الإجابة بنعم فيما لو كانت إسرائيل حاضرة في “الحلحلة” الجارية، والتي تزداد وضوحاً يوماً بعد آخر، لا سيما مع تصريح وزير الخارجية الروسي الأخير عن إمكانية العودة إلى اتفاق العام 1998 بين نظام الأسد وتركيا، بمعنى إعادة العلاقات إلى مجاريها، والاعتراف المتبادل، وصولاً إلى التطبيع. لكننا نعلم أن انخراط إسرائيل، وقبولها بصفقة إقليمية يمكن أن تحصل من خلال روسيا أو حتى تركيا نفسها، سيعني انسحاب إيران من سوريا، وهو أمر لم تظهر أي دلائل على حدوثه، مع أنه غير مستبعد عسكرياً، فإيران رسخت وجودها سياسياً واقتصادياً وثقافياً في سوريا، ولم يعد الحضور العسكري المباشر ذا أهمية قصوى.

لكن، لو افترضنا أن إسرائيل غير مشاركة، فهذا سيعني حكماً أن الولايات المتحدة ستبقى أنظارها على الساحة السورية، فيما يدها على مقبض سيف العقوبات على سوريا والتلويح بالمحاسبة على جرائم الحرب، وهذا بدوره يقودنا إلى التساؤل: كيف يمكن لتركيا أن تتعامل مع نظام الأسد والعلاقة به مقيدة بكل تلك العقوبات الأميركية والغربية، إن لم تكن قد حصلت على وعود ما باستثناءات؟ خصوصاً أن الحديث يتصاعد من هنا وهناك عن مشاريع إعادة إعمار تركية في مناطق سيطرة النظام، منها الغوطة وأجزاء من حلب.. ومن سيدفع أصلاً تلك التكاليف التي لا بد منها لنقل الصفقة المحتملة من تصريحات دبلوماسية إلى واقع ملموس؟ هل هي الدول العربية الخليجية التي زارها أردوغان مؤخراً؟

في مطلق الأحوال، يشابه تحول الموقف التركي، إلى حدّ بعيد، التدخل الروسي في سوريا منذ العام 2019، والذي كان بدعوة من واشنطن أيضاً. ومعلوم للجميع أن ذلك التغير الذي صب في صالح نظام الأسد، ومدّد له، لم يحل شيئاً من القضية الجوهرية، وهي إيجاد حل عادل ودولي لصراع الشعب السوري مع النظام التسلطي. وبناء عليه، فإن الصراع في سوريا وعليها سيستمر، سواء رغبت أنقرة في ذلك أم لا. بل إن نظرة تاريخية متفحصة إلى سياسات أردوغان ونظام الأسد، ستشير بلا جدال إلى أن الموقف التركي سينقلب في وقت ما، وستعلن تركيا ندمها وخيبة أملها من هذا النظام الذي “لا خير يرتجى منه”.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا