ديرالزور: طهران تبدأ “اختبار الماء” ضد القوات الأميركية

منذ أن زار الوزير السعودي ثامر السبهان، قاعدة العمر الأميركية في ديرالزور، في صيف 2019، يتصاعد الاستقطاب في الشرق السوري، الذي تبين أنه أصبح محطة رئيسية لقطع الطريق الإيراني إلى المتوسط. وتريد طهران المنطقة كهمزة وصل بريّة بين مناطق نفوذها في العراق، وشواطئ المتوسط في الداخل السوري واللبناني، ما حولها إلى ساحة مواجهة، تتجه لأن تصبح رويداً رويداً جبهة ساخنة ومستقلة بذاتها، في الصراع الإقليمي والدولي ضد إيران.
وبدأ الصراع بالتفاقم مع حشد المزيد من المليشيات الإيرانية في الضفة الغربية الجنوبية لنهر الفرات، عقب طرد تنظيم “داعش” منها، والبدء باستقدام مليشيات عراقية وجزء من “الحشد الشعبي”، لتنضم إلى قوات “الحرس الثوري” الايراني و”حزب الله” و”لواء فاطميون” و”زينبيون”، مع تجنيد اعداد متزايدة من السكان المحليين في تلك المليشيات. في المقابل، عززت القوات الاميركية من تواجدها في حقول العمر وكونيكو والتنك على الضفة الشرقية الشمالية لنهر الفرات، لتصبح جميع هذه القوات متواجهة على جانبي النهر، بخط جبهة يمتد لأكثر من 300 كيلومتر، وبمسافة تصل أحياناً بينهما إلى 70 كيلومتراً وتضيق في بعض المناطق إلى كيلومتر واحد، كما هو الحال في منطقتي الباغوز/البوكمال، والشحيل/بقرص.

ومع اتساع أنشطة الطرفين بدأ التداخل في مناطق العمل الجوي، ولولا التنسيق الأميركي-الروسي لحدث أكثر من تصادم بسبب اقتراب طيران النظام من القوات الاميركية، أو تحليق الطيران الاميركي فوق مناطق سيطرة المليشيات الإيرانية اثناء العمليات ضد “داعش”.

أول اعلان صريح عن التوتر بين الطرفين، جاء من “الحشد الشعبي” في العراق، عندما أفادت مصادر مقربة من قيادته بأن العمليات الجوية التي استهدفت مقراته ومستودعاته في العراق، قد نفذها طيران مسير إسرائيلي، انطلق من القواعد الأميركية في مناطق سيطرة “قسد”، أو ما بات يعرف بشرق الفرات.

ثم جاء الإنذار التالي عندما نشرت قناة “فوكس نيوز” الأميركية تقريراً منقولا عن مصادر استخبارتية يفيد ببناء إيران مجمعاً عسكرياً ضخماً في البوكمال تحت مسمى “مجمع الإمام علي”، لتتفجر الأوضاع بعد ذلك عندما قصف طيران مجهول لذلك المقر ودمره بالكامل. واستدعى ذلك التطور الخطير، استقدام المليشيات الإيرانية لثلاث بطاريات صواريخ مضادة للطائرات، ونصبها في منطقة البوكمال.

ويرجح أن هذه البطاريات من المنظومات الايرانية الصنع المتنقلة مثل منظومة “تلاش” المزودة بصواريخ “صياد” المضادة لأهداف ذات مدى بعيد وارتفاع متوسط، أو منظومة “كمين 2” القادرة على رصد واستهداف أنواع الطائرات الموجهة وغير الموجهة، على الارتفاعات المنخفضة، أو المنظومة الأكثر تطوراً “سوم خرداد” التي اشيع أنها التي اسقطت الطائرة المسيرة الاميركية من طراز “غلوبال هاوك” في 20 حزيران/يونيو فوق مضيق هرمز. وتستخدم هذه المنظومة لاستهداف مختلف انواع المقاتلات والقاذفات وصواريخ كروز، ما يُمكّنها من تهديد الحوامات الهجومية الاميركية المتموضعة في حقل العمر النفطي، الذي يبعد عن البوكمال نحو 70 كيلومتراً فقط، كما أنها تشكل تهديداً خطيراً لأي طيران أميركي قد يحلق فوق منطقة البوكمال وجنوبها، حيث ما يزال هناك جيب واسع لـ”داعش”.

بهذا المعنى لا تعتبر تلك المنظومات الإيرانية فقط عائقاً أمام ارسال مُسيّرات جديدة لضرب أي قوى إيرانية خطرة هناك، مثل نصب صواريخ أرض-أرض التي يمكنها بلوغ الأراضي الإسرائيلية، بل توفر غطاءً جوياً لتنظيم “داعش”، الذي لا يهدد تحركاته فعلياً سوى الطيران الأميركي.

ايران لم تكتف بهذا الاجراء، بل بدأت تحركات أرضية عبر حشد مجموعات قبلية موالية لها من المنطقة، وبدأت “اختبار الماء”، (المعروف لدى السباحين قبل الغطس) لخوض معارك محلية في أكثر من منطقة. وتشهد بلدة الحسينية عند مدخل ديرالزور الشمالي توتراً شديدا منذ أسبوع على خلفية اعلان مجموعة عشائرية من قبيلة البكارة عزمها على الاستيلاء على ريف ديرالزور الغربي وطرد قوات “قسد” منها، ومناشدتها أهالي المنطقة من القبيلة التعاون معها، وإزالة السواتر الترابية ونزع حقول الالغام استعداً لاقتحام المنطقة. الأمر الذي قابلته “قسد” بحشد قواتها هناك، ورفع السواتر والمتاريس، مع تراجع كافة اشكال الحياة والعمل، في منطقة تمتد على نحو 100 كيلومتر، على امتداد نهر الفرات غربي ديرالزور.

وفي اجتماع عاجل طلبه المنسقون الأميركيون مع الجانب الروسي، أعلن الروس أن لا علم ولا سيطرة لهم على تلك المجموعات، التي وصفوها بجماعات عشائرية محلية “تريد العودة إلى قراها”. الأميركيون، حملوا الروس رسالة واضحة، بأن مصير هؤلاء لن يكون أفضل من مصير الجماعات التي حاولت قبل نحو سنتين اقتحام المنطقة المحيطة بحقل كونيكو للغاز، وتعرضت للإبادة بالكامل. وذكرت وسائل اعلام روسية حينها أن بين القتلى العشرات من المرتزقة الروس، بواسطة الحوامات الهجومية الاميركية.

فما الذي سيحدث لو استخدمت هذه “المجموعات القبلية المحلية” غير المحسوبة نظرياً على أي من أطراف الصراع الكبرى، سلاحاً مضاداً للطائرات ضد الطيران الاميركي؟

بطبيعة الحال تمتلك القوات الاميركية حزمة من الخيارات لتدمير منظومات الدفاع الجوي الايرانية هناك، مثل الصواريخ الراكبة للاشعاع الرادري. وتمتلك الطائرات الاميركية العاملة في سوريا والعراق أنظمة احباط واجهاض لمنظومات الدفاع الجوي المعادية، والصواريخ المضادة للإشعاع.

لكن، ماذا لو نوّعت إيران من خياراتها بعد ذلك أو قبله، وأدخلت إلى الميدان كمية من الصواريخ المضادة للطيران المحمولة على الكتف، والتي يصعب كشفها أو تدميرها مسبقاً؟ ماذا أيضا لو سربت بعض هذه الأسلحة لخلايا وعناصر “داعش” المنتشرة في المنطقة والذين لن يتوانوا عن استخدامها ضد الطائرات الأميركية التي تنفذ انزالات يومية تقريباً على تلك الخلايا وتحلق على ارتفاع منخفض جداً لتتمكن من اعتقالهم وقتلهم. ماذا أيضا لو فعلت خلاياها الكثيرة جداً المنتشرة في مناطق سيطرة “التحالف”، وبشكل علني، خاصة في محافظة الحسكة، حيث يوجد مقرات معروفة لـ”الحرس الثوري” ومقر قيادتها في مطار القامشلي، وتدرب افواجاً من المقاتلين المحليين منذ أشهر، وهي بالتاكيد تعدهم لمهمات من هذا النوع، يمكنها أن تزعزع الاستقرار، وتشعل الأرض تحت القوات الأميركية شرق الفرات؟

المدن ١٥ أيلول/سبتمبر ٢٠١٩
قد يعجبك ايضا