رواية عام الجليد.. الادب الديستوبي في خدمة العدالة

“لم أعد أبالي إذا كنتُ سبارتاكوس، الفتى الذي قذفته أحلامه بوحش الصقيع إلى جحيم من الجليد، أم زمهرير كائن الصقيع الذي صدق خيالات الإنسان فأوصلته إلى أقصى تعاسة المعرفة”.

بداية سبارتاكوس وزمهرير هما بطلا رواية عام الجليد التي صدرت مؤخراً عن دار المتوسط في ميلانو للكاتب والروائي الفلسطيني السوري رائد وحش.

كما هو واضح من المقتطف فإن الرواية يمكن تصنيفها ضمن أنواع الروايات الديستوبية، التي تتناول سرداً قصصياً جديداً على القارئ العربي، وهو نوع من الأدب الخيالي، يسلط الضوء على قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو فلسفية.

من هو سبارتاكوس

سبارتاكوس هو البطل الذي تنطلق الرواية على لسانه في بعض الأحيان، وفي أحايين أخرى على لسان كتلة الماء المتجمدة، والتي اسمها في الرواية زمهرير، كنوع من الامتزاج بين الإنسان ومفردات الطبيعة، التي أصبح لها في الأدب الحديث لسان وشعور. وزمهرير هي التي تروي السرد الحكائي كما أخبرها إياه سبارتاكوس، الذي اختار لنفسه هذا الاسم من كثرة مشاهدته للأفلام.  بكل الأحوال اسم يرمز للتحرر من العبودية، فكما هو معروف أن سبارتاكوس كان عبداً في الدولة الرومانية يداعب الوحوش في حلبات المصارعة لتسلية الأهالي، ثم ما لبث أن ثار ضد الرومان، ونظم ثورة انضوى تحت لوائه آلاف العبيد في تلك الإمبراطورية، وانتصرَ عليها في عدة معارك إلا أنه في النهاية هُزم وتم صلبه، ليصبح فيما بعد رمزاً من رموز التحرير ضد الظلم والعبودية.

محاربة الذكاء بالشعوذة

سبارتاكوس الطفل الساهم، الذي يكثر التأمل في الطبيعة وعناصرها، فالغيوم البيضاء ترمز لله، وكذلك لحية جده البيضاء، والبول هو من رائحة الشيطان. ولن يتوانى سبارتاكوس عن قطع شرايينه عندما اشتم رائحة بول من جسده، معتقداً أن الرائحة الوسخة لن تذهب حتى يغسلها بالماء. بخياله جعل قطعة البطاطا المسلوقة فخذاً مشوياً، وكوب الماء كأس عصير لذيذ الطعم.

هذا الصبي الذكي يظن أهله أن لديه مساً من الجن فيذهبون به إلى الشيخ المشعوذ كي يرقيه، ولكن أمه لم تحتمل أن ترى الشيخ يدوس فوق ولدها كطقس من طقوس التكبيس، فتحمله وتهرب به بعيداً عن ذلك المشعوذ.

يسقط شعر الأم كونها مصابة بالسرطان، فيربط الطفل مباشرة بين سقوط شعر أمه وتساقط أوراق الأشجار في الخريف، ما يعني بالضرورة أن الأم في خريف عمرها.

يوسَم هذا الطفلُ الانطوائي بالجنون، ولولا ذكاؤه وتفوقه في الدراسة لما توقف أطفال الحي عن ملاحقته في الشوارع، وهم ينادونه يا ابن الصلعاء.

الظلم حوله لطالب ثأر

يُضطر سبارتاكوس لترك الدراسة نتيجة مرض أبيه المفجوع بفقد أمه، فلا يجد عملاً خيراً من الزراعة في مزرعة خاصة. أثناء زيارة أبيه في المشفى شاهد أناساً يهتفون للحرية، لم يعنِ له الموضوع كثيراً، ” لو عاشوا مثلي بين الماء والشجر والحيوانات لما احتاجوا إلى الثورة”، ولكنه عندما رأى هذا الكم الهائل من العنف المفرط ضد المدنيين العزل إلا من حناجرهم الصادحة بالحرية، والمشافي لم تعد مشافي بل حلبات إعدام وجد نفسه متعاطفاً معهم، ” صحيح أني لا أفهم السياسة، ولا أزال كذلك، لكني لا أرضى الظلم، ولأجل ذلك انا طالب ثأر. يقولون إن الثأر قد انتهى، وهذه أكذوبة كبرى، ما معنى عقاب الله للخُطاة يوم الحساب؟ أليس ثأراً؟.

يقضي والد سبارتاكوس في القصف الذي تقوم به طائرات النظام على الحاضنة الشعبية للمناطق الثائرة، بينما يُصاب هو بشظية تظل في جسده، وتؤلمه في الصيف والشتاء.

رغم أن سوريا أو أياً من مدنها لم تُذكر في الرواية، ولكن السرد الحكائي يؤكد أنها جرت على أرض سوريا، فهي البلد شبه الوحيد من بلدان الربيع العربي، الذي تهجَّر أهله، وركبوا قوارب الموت كي ينجوا بالحياة.

الموت بين الجليد

سبارتكوس الذي أصبح لا حول له ولا قوة بعد الإصابة، يتكفل صديقاه بنقله إلى أوروبا عبر البحر، ولكن الغربة والبرد والجو الرمادي ضاعفا من مشكلته، وزادا من توحده مع ذاته، حتى مات على الثلج الذي تحولَ لجليدٍ غطاه لعامٍ كامل، ولولا ذوبانُه لما اكتشفوا ذلك، وكأنها تريد أن تقول أن من كانت مشكلته بالأساس في بلده، فلن تحل له الغربة هذه المشكلة، بل ستضاعفها.

الرواية تدور حول الأحداث ولا تتكلم عنها فمحورها الأول والأخير هو سبارتاكوس، ذلك الرجل المتوحد، الذي يسمونه في مجتمعاتنا مجذوب، وهذا الصنف من الناس قلما أشارت لهم الدراسات الأدبية، و لا يعرف مجتمعنا كيف يتعامل معهم، فبدل أن يسخر إمكاناتهم الكبيرة لمصلحته يحولهم إلى عالة عليه، فما بالك بعد اندلاع الثورة، والكثير من الناس العُقَّل أصبحوا مجانين، نتيجة ما رأوا من أهوال؟ّ

بين الأمير الصغير وعام الجليد

تذكرني هذه الرواية برواية الأمير الصغير لانطوان دو سانت اكزوبيري، فالفانتازيا حاضرة في الروايتين، فطفل الأمير الصغير رسم ثعباناً يبتلع فيلاً، ثم تحولت الرسمة إلى حقيقة، وكذلك نحت سبارتاكوس زمهرير على جليد أحد النوافذ في الشتاء، ليتحول زمهرير إلى روح ترافقه طوال الرواية، و أحبط الأصدقاء مسيرة الطفل كرسام، عندما لم يفهموا معنى رسمته، فكذلك أحبط الناس التفتح الذهني المبكر لسبارتاكوس عندما وصفوه بالجنون، وجعلوا أمه تذهب به إلى المشعوذ، بالإضافة إلى العديد من الأسئلة الوجودية البسيطة التي ترتبط بعناصر الطبيعة في كلا الروايتين.

مصطفى عباس-ميديا مونيتور

قد يعجبك ايضا