زيت وزعتر وكورونا

عمار عكاش

جسر: نص:

١- كثيب الزعتر:

لما كنت صغيرا كم كان يدهشني الزيت المجمد في القنينة، مثل إسفنجٍ تكاثف، خرافيةٌ حُبَيْبَاتُه، وأنا أتأمّله تصيح أمي بنت جيلها المهووس بالترتيب والصراط المستقيم: “ما الذي تنظر إليه ؟ اسكبه في صحنٍ وضعه تحت الصوبة كي يذوب”، وحينها لا أعرف لماذا لا تلاحظ الحبيبات ولماذا هي لا تعرف سوى أن الزيت للطبخ والسكب فوق الزعتر، ولم أكن قد تلقّنت بعد عباراتٍ شاعرية ولا تنظيرية فلم أنعتها بأنها قليلة الشاعريّة . كنت أشعر حين أذيب الزيت أنني صاحب معصرة زيتونٍ وأنني أعدّ زيت الزيتون لكثيبِ زعترٍ، وأتخيل أن لي فرسا تعبر سبع صحارى، وما يوما تخيلت فرسي تغوص في كثيب رملٍ. روقو عليْ شوي، أعرف أنكم تقولون في سرّكم، إنه ترف كلاميٌّ لرجلٍ يقارب الأربعين يريد أن يعود خلْفا، ويقول كنت طفلا مختلفا منذ الصغر، كي يبرّر انكفائه الحاضر، إنه صداع قلقٍ قديم، قلق أم هوية؟؟ قلقٌ إن غاب حل مكانه خمولٌ مريع، مثل سيارة تعطلت فجأة وقالوا لصاحبها لم يعد المصنع ينتج قطع تبديل فغطاها وتركها مكانها حية واقفة مثل مملكة مهجورة .

٢- أوكاليبتوس:

 كم سمعتُ كلماتِ حبٍ: حبيبي، روحي، عمري… لا أعرف متى بدأت أشعر بالملل من كل هذا وأشعر أنني لو ألمّ كل كلماتي في قنينة وأحبسها مثل جنيٍّ وأدفنها تحت شجرة الأوكاليبتوس (الكينا) سيأتي من سيفتحها بعد جيلين، أسميها أوكاليبتوس مثلما علمني أبي الذي تعلم العربيّة من الكتب ودرس الهندسة الزراعية في أزمير، كان يتحدث بالعربية خلطيا مدهشا من كلمات عربية فصيحة ومفردات عامية وكلمات كثيرة مترجمة من الكردية والتركية، ولطالما سألت نفسي لماذا يسمي أبي عصير الفواكه بماء الفواكه، حتى أتيت صدفة إلى تركيا وكم ضحكت حين علمت أن الأتراك يسمونه : Meyve suyu (ماء الفواكه) ، كان أبي يجيد تعليمي عن رائحة ورق الشجر وعن جمال ذيل السنونو، هيا نقطف ورق الأوكاليبتوس، بين أصابعي رائحته، ويفوح علي كريما مع ماء ساخنٍ، كان أبي يحدثني عن رحلة الذهاب إلى البستان، يعدني لها كما يقرأ لي قصة الأرنب والسلحفاة، في الليل كان أبي يسلط ضوء بيلٍ ناعمٍ على علبة الكهرباء حيث فرّخ السنونو، يا طائري المقدّس، كلما عبرت كراج أضنة وقفت أتأمل سقفه وتدغدغني من شحمة أذني وكل بدني رعشةٌ لمرأى أعشاش السنونو، فأصدق للحظةٍ أن هناك من سيأتي إلى ظل الأوكاليبتوس، ويفتح القنينة فتخرج كل كلماتي وتصير هندباء وسنونو و ورق أوكاليبتوس، وتغمر الدنيا طوفانَ نوح .

٣- هباء الجنس:

لا أذكر شيئا من كلمات الغزل ومن كل كلمات الجنس الحار، بل أحيانا أظنها تقال انتشاء أو لتهمز الفرس فترضي صاحبها فقط، لا تعاتب ثملا على ما قاله ذات ثَمَل. أذكر صديقة كانتْ تحبّني دون صيغة تُعرِّفني بها، تحبّني ولا تعشقني، وتشتهيني فقط دون أشياء بعيدة ودون أشياء كثيرة وأشتهي فيها شهوتها لي، تشتهيني دون كواكب تدور ودون نجوم تتساقط، مجرّد فطرة المواسم، وبساطة الأنوثة وصراحة إيقاع الجنس واختلاف الذكورة والأنوثة وتشابههما!. في آخر أيامي في حلب، قبل أن أنام فاجأتني رسالة على موبايلي البدائي؛ شاشةٌ رصاصية وكلمات سوداء مثل الآلة الطابعة: “طلع الخبز من الفرن، شميت ريحته تذكرتك”. ما أسخف كل حبٍّ عشته وكل كلامٍ سمعته صديقتي الحبيبة، فأنا لا أتذكر من كلمات حبيباتي الكثيرَ، وهن غادرنني ومعهن هدايا صغيرة تُعنَى بتفاصيلهن الصغيرة، وحملن في جعبتهن أسماء خاصة أغدقت عليهنّ بها مخيلتي الفصامية الفائضة، لم تزل صديقاتهن وأسرهنّ تناديههن بها، ربما لا يعود هذا إلى رومانسيةٍ جميلة بل إلى رغبتي في التملك، فالأشياء تصير ملكنا متى سمّيناها. نعم أنا لا أتذكر شيئا من كلمات حبيباتي، وأحنّ للطمأنينة النائمة على قلقي فقط، وحدها مثل وشم جميلٍ بقيت تلك العبارة كأنني سأُودُعِها قمقم الجني:” طلع الخبز من الفرن، شميته تذكرتك”. ما أجمل الكلام حين لا يحمل ادعاءات كبيرة، وحين لا يرمي إلى شيء أكثر من أن يقال .

٤- كورونا:

 أثناء حصار الهلع والوباء يغزو العالم، لم أسُجَن في بيتي فقط، إنه أنا مرغما على الجلوس مع نفسي، لا مكان للهروب منذ الصباح من مقهى لمقهى، لا فرصة لأحيط نفسي بدفءٍ بشري عن بعد، لا أخاف الظلام، ولا لصوص استنبول، ولا اعتداء عنصريا، كم أخاف البقاء مع أنا، كيف أواجه أنا طيلة النهار، كيف أحميني من أنا في الليل، هل أكره أنا أم أخاف منها؟ هل أقتلها أم أعقد صلحا معها أعرف أنها لن تحفظه؟. وحين العصاب يتملّكك تظن أن ما عشته منذ الطفولة هو ما أوصلك هنا، توجد تشعبات سببية أحيانا لأشياء لا تحتمل سببا، وفي ذات الوقت تغريك فكرة أن كل شيءٍ عبثي، وترى نرد محمود درويش بين يديك ترميه وترميه وترميه.

أسئلة الحصار وبائيَّ الذاتي أنهكت دماغي وفروة رأسي ورقبتي وعيني ولوح الكتفين وركبتي. ذات يوم فتحت البراد ورأيت قطرميز الزيت والزعتر الأخضر والزيتون الذي أعددته وقد تشقق زجاجه بالزيت المجمد، بكيت جلست على البلاط وأسندت ظهري إلى جدار مطبخي ، وقطتي ذات الوبر الطويل تعلم أن بي خطبا ما، تمسح قدمي وتموء مواء مترجيا، كيف أقول لها: “لوشيلا ما أصعب أن تكون إنسانا” (١).

_____________________________________________________________________________________

(١) عبارة مقتبسة من عبارة بابلو نيردوا: يحدث أحيانا أن أتعب من كوني إنسانا.

قد يعجبك ايضا