سوريا: خطوتان إلى الأمام.. خطوة إلى الوراء

عبد الناصر العايد

تصدى السوريون لموجة التطبيع مع نظام الأسد، شأنهم في كل انكسار، بنظرية المؤامرة، بمعنى أن هناك تواطؤاً بين أطراف، تتغير حسب الظروف، تسعى لهزيمة الثورة وتعويم النظام. والحقيقة التي لا يمكننا تجاهلها، مع المناهضة المتواصلة لفكرة المؤامرة، هي أن ثمّة تواطؤاً غير معلن بين قوى بعينها، تنتمي إلى محورين رئيسيين في عالم اليوم، كلاهما لا يجد له مصلحة في انتصار “الثورة” السورية. بل إنهما يرفضان، صراحة أو بإضمار، فكرة الثورة بحدّ ذاتها، بمعنى أنهم أنتي-ثورة، أي ضد كل تغيير فجائي مرتهن لقوى اجتماعية أو شعبية بطموحاتها واساليبها. وهذا يختلف عن مصطلح الثورة المضادة الذي يتم اللجوء إليه أحياناً لوصف القوى التي أفشلت موجة الربيع العربي. لكن، ومع الفارق الكبير بين المحتوى الشعبوي لفكرة المؤامرة ومعنى “ضد- ثورة” التي يمكن أن يعتمدها المثقفون ومحترفو السياسة، إلا أن النتائج الملموسة لكليهما في المدى المنظور، واحدة، ولا فائدة من التمييز بينهما ما لم يكن بالمنظور الاستراتيجي.

لم تنجم المسألة السورية عن صراع المحاور الإقليمية، ولا بسبب السياسات الخارجية لهذه الدولة أو تلك، وتصادمها مع سياسات نظام الأسد. على العكس، كانت لحظة تفجرها مرحلة تناغم وانسجام، خصوصاً مع تركيا ودول الخليج العربي. لقد تفجرت الثورة السورية في سياق الربيع العربي وبفضل دينامياته المستجدة التي منحت شعوب المنطقة الوسائل والأدوات والرؤية لأخذ زمام المبادرة وتحويل واقعها، على قواعد أخلاقية غير مختلف عليها، مثل الحرية، والعدل، والكرامة الإنسانية، والمساواة. وكان هذا يعني ببساطة نزع الشرعيّة عن كافة أنظمة المنطقة وتقويض أسسها التي قامت عليها على مدى نحو قرن من الزمان. خذ تيمة المساواة مثلاً، وضع نفسك مكان شخص من نخب الحكم في أيما دولة شرق أوسطية، واختبر ما تثيره فيه من فزع تلك الكلمة التي تعني أن يتساوى الحكّام بأفراد الشعب!

من المنطقي إذن أن تتآزر نخب السلطات القائمة في المنطقة، لتقضي على هذا المنزع المتصاعد للحراك الشعبي الواسع في مرحلة الربيع العربي، ووأد التحولات التي يبشر بها. لكن خلافاً، طارئاً، نشب بين بعض الأنظمة على خلفية الفوضى العارمة التي خلّفها سقوط بعضها، أو تخالف الرؤى حول سبل المعالجة والمواجهة، ولعبت عوامل شخصية، مثل صلف ورعونة بشار الأسد، دوراً في إثارة العداء له هنا وهناك. لكن الخطر الحقيقي المشترك بقي كامناً في العمق، وهو نزعة الشعوب إلى تحرير نفسها من السلطات التقليدية، وهو ما يجب أن يُطوَّق وأن تستعاد السيطرة عليه بكل الطرق الممكنة. ومن بين تلك الطرق، دعم بعض مكونات الثورات، وإغداق المال عليها، وتدجين النخب الجديدة، وعزلها عن جمهورها، ووضع الجميع في صراع مع الجميع على طريق التدمير الذاتي وتشويه وتقويض فكرة الثورة ذاتها.

هكذا مرّ عقد من الزمان، فشلت خلاله كافة ثورات الربيع العربي، واستعادت الأنظمة الشرق أوسطية توازنها والقدرة على التفكير بعقلانية، وتجاوز الخلافات الطارئة التي اعترت علاقاتها، بعضها ببعض، والبدء بتنسيق جهودها إزاء جمهور غاضب ومتحفز ما زال يمتلك القدرة للوثوب مجدداً إلى الساحات والميادين.

يتماشى هذا التيار الإقليمي، أو المحلي، مع سياق دولي مشابه تمثله الصين وروسيا، اللتين وقفتا بحزم وعلى نحو موحد بشكل استثنائي في مجلس الأمن، واستخدمتا الفيتو المزدوج ضد كافة القرارات التي كان من شأنها أن تدعم المجتمع أمام حاكميه، خصوصاً في القرارات الخاصة بسوريا، على اعتبار أن ذلك البلد هو المكان الذي نجحت سلطته الحاكمة في كسر موجة الربيع العربي.

وفي الأفق الغربي، كانت هناك مناهضة “للثورة” من منطلقات مختلفة. فما طرحه الربيع العربي من شعارات، هو في الواقع القيم التي يقوم عليها الغرب المعاصر، وليس بوسع حكومات تلك الدول إلا أن تؤيد مطالب الحرية والعدل والمساواة، أي “الديموقراطية” التي نهضت بفضلها مجتمعاتها. لكنها، من ناحية أخرى، حاذرت أن يؤول دعمها ذاك إلى بروز القوى الحقيقية للمجتمعات، وهي ما تتصور أنها قوى دينية عنيفة ومعادية للغرب وقيمه، وقد سُجّلت إشارات واضحة لهذه الإمكانية مثل ظهور تنظيم “داعش”، لذلك سلك الغرب سلوكاً مراوغاً لا ينكر أحقية الشعوب في تغيير الأنظمة القائمة، لكنه لا يدعم تغييراً فورياً وجذرياً. وفضّل الغرب، بدلاً من ذلك، التحولات التدريجية البطيئة، بمعنى دمقرطة المجتمعات الشرق أوسطية في العمق أولاً، حيث تسرّع التكنولوجيا الحديثة وثورة الاتصال والتواصل عمليات دمج سكان تلك المنطقة في المنظومة الغربية، بينما تتكفل الأنظمة الحاكمة مؤقتاً بمواجهة الجانب المظلم لتلك المجتمعات والمتمثل في النزعة الراديكالية الدينية وتنظيماتها الدموية.

يفيد التحليل السابق بأن مجتمعاتنا، وفي خضم تحولاتها الداخلية العنيفة، تواجه أيضاً سياسات لأطراف خارجية متعددة، تناهض في مجموعها فكرة الثورة، لكنها تتميز عن بعضها البعض في كون سياسات الأطراف الاقليمية، وهي هنا السلطات القائمة، قلقة وآنية وتتسم بالتقلب. فهي تتعامل مع مجموعة كبيرة من المعطيات الصغيرة والكبيرة دائمة التغير، وحتى إن استطاعت أن تتكيف وتتعامل مع ما هو ظاهر منها، إلا أنها عاجزة عن مجرد التنبؤ بتيارات الأعماق، وهي مهددة على الدوام بانفجار كبير غير محسوب مثل أحداث الربيع العربي.

وعلى العكس من ذلك، تتمتع الرؤية الغربية، المناهِضة أيضاً للتغير الفجائي، بالاستقرار والاتساق. فالمبادئ الكبرى لا بد من الاعتراف بها في المجتمعات الشرق أوسطية عاجلاً أم آجلا، لا بسبب الضغط الخارجي، بل بفعل تطور ونضج المجتمعات ذاتها عبر مسار تراكمي. ومساهمة الغرب في دفع عجلة التاريخ بهذا الاتجاه، يمكن أن تقتصر على مواصلة التقدم الذاتي، والسماح بتساقط ثمار التطور التقني المربوطة بالقيم الغربية في الاتجاهات كافة، لتوليد الكتلة الحرجة التي ستقلب الموازين في نهاية المطاف من دون اهتزازات عنيفة.

بوسع المرء في شرقنا الأوسط المتقلب، أن يركن إلى عيش هادئ نسبياً في ظل الأنظمة الحاكمة الحالية بشعاراتها القديمة. لكنه يستطيع أيضاً، مع تحمل الكلفة، أن يختار الوجهة التي بشّر بها الربيع العربي، أي اعتناق القيم الأخلاقية الكبرى كبديل من سلة الأيديولوجيات السلطوية الآخذة في التآكل. وهي الوجهة التي يبدو أن تاريخنا البشري ينحو صوبها، لكن بلا ثورة صاخبة، وانقلابات دراماتيكية، بل بأسلوبه المتردد الخجول: التقدم خطوتين، والتراجع خطوة واحدة.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا