سوريا في “الزمكان” الحرج

عبد الناصر العايد

كشفت تقارير أميركية، الأسبوع الفائت، أن القوات الروسية في شرق سوريا أطلقت، في نهاية العام الماضي، صاروخاً من منظومة “بانتسير” متموضعة في مطار القامشلي، على طائرة أميركية مسيّرة من نوع MQ-9 Reaper المتطورة، لكن الصاروخ فشل في إسقاط الطائرة.

الوثائق الأميركية المسربة التي كشفت الحادث، كشفت أيضاً تقريراً آخر يتحدث عن تخطيط المخابرات العسكرية الأوكرانية، خلال الفترة الزمنية ذاتها، لشن هجمات سريّة على القوات الروسيّة في سوريا باستخدام طائرات بلا طيار بالتعاون مع قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من واشنطن، ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن وثيقة استخباراتية أميركية وصَفتها بالسريّة للغاية، قولها أن “قسد” كانت تأمل الحصول في مقابل ذلك على منظومات دفاع جوي من أوكرانيا. ويعلم مراقبو الوضع في شمال شرقي سوريا، مدى حاجة القوات التي يقودها أكراد إلى منظومة من هذا النوع للردّ على الهجمات الجويّة التركية على قواعدها وقادتها، سواء في سوريا أو مناطق أخرى. وذلك إضافة إلى القيمة الاستراتيجية لهذا السلاح لضمان وجود طويل الأمد لتلك القوات التي تعاني انكشافاً جوياً كاملاً بعد رفض واشنطن بشكل قاطع تسليمها أي أسلحة من هذا النوع، خشية ردّ الفعل التركي من ناحية، ومن ناحية ثانية لكون مهمة تلك القوات محصورة في قتال تنظيم داعش على الأرض، وهو ما لا يحتاج أسلحة دفاع جوي.

إن الربط بين الحادثتين أعلاه ممكن جداً. فالقوات الروسيّة يمكن أن تكون قد أبُلغت بهجمات جوية محتملة بطائرات مسيرة وأطلقت الصاروخ آنف الذكر لدى اقتراب الطائرة الأميركية من قاعدتها في مطار القامشلي التي تضم حوامات قتالية وطائرات حربية نفاثة، خصوصاً أن تركيا كانت على علم بتلك الصفقة، وفق الوثيقة المسربة، وكانت تأمل في صِدام بين روسيا و”قسد”. ويبدو من تحليل السياق أن الخطة الأوكرانية قد طرقت أولاً أبواب فصائل سورية معارضة تسيطر عليها أنقرة، لكن الأخيرة وجهتها نحو “قسد” على أمل توريطها في هذه المغامرة الخطرة التي ألغاها الرئيس الأوكراني زيلينسكي لأسباب مجهولة.

إن هذا الاحتكاك الروسي الأميركي في شرق سوريا، عبر أو بسبب حلفاء للطرفين، ليس الأول ولا الأخير. على سبيل المثال، حدث صدام حقيقي بين الطيران الأميركي ومقاتلين من مليشيا “فاغنر”، في منطقة خشام شرقي دير الزور العام 2018، عندما حاولت تلك المليشيا الاستيلاء على معمل غاز كونيكو، واستجلبت العملية رداً قاسياً من القوات الأميركية نجم عنه مقتل نحو 280 عنصراً من المرتزقة الروس، وفق تقارير أميركية. وفي أوائل شهر نيسان الحالي، اندلع اشتباك عنيف بين “قسد”، والفيلق الخامس المدعوم من روسيا، في ريف دير الزور الشرقي، وأسقط قتلى وجرحى من الطرفين، وأرسلت القوات الروسية رتلاً لمؤازرة حلفائها، فيما أرسلت القوات الأميركية طائرات لدعم حلفائها، لكن الصِّدام التصعيدي لم يحدث وتمت تسوية المشكلة بين الطرفين.

تُسفر المعطيات السابقة عن حقائق لطالما توارت خلف صراعات قوى أقل شأناً في سوريا. فحضور القوتين العظميين على الأرض السورية، والمدعوم بالسلاح الثقيل، هو أبرز الوقائع وأكثرها صلابة. والتّماس والاحتكاك المباشر بينهما، هو الوحيد والأقرب، منذ أزمة الصواريخ الكوبية إبان الحرب الباردة، لكن أحداً لا يدري على وجه اليقين لماذا يتم تجاهل ذلك في الحسابات والتصورات لمستقبل سوريا وحل مسألتها العويصة.

إذا أخرج المرء رأسه من تيار الأحداث الجارية وضجيجها الإعلامي، ونظر في الخريطة السورية بعيداً من التشويش وحسابات القوى الصغرى، فإنه لا بد أن يتساءل كيف لأي من أطراف النزاع الإقليمية أو العربية أو المحلية السورية أن تقترح حلاً لا يبدأ من واشنطن وموسكو، أو ينتهي إليهما، في ظل كل ذلك الوجود الراسخ، بحيث تسيطر روسيا على مراكز الرموز السيادية في غرب سوريا، بينما تسيطر واشنطن على مراكز الثروات السورية في شرقها؟ ولا يسع الناظر أن يتصور ما يجري إلا بوصفه استمراراً للصراع بين هاتين القوتين عبر وسطاء، سواء عبر حروب الوكالة (proxy war) بالنسبة للصراع العسكري، أو تدخلات الحلفاء بالنسبة للمبادرات السياسية. ومن هذا المنظور ما قيمة الطرح العربي مثلاً، ما دام لا يحوز موافقة ورضا سوى طرف واحد هو موسكو. وما مصيره ما دام تدخلاً لصالحها بالضد من الإرادة الأميركية؟ وأخيراً، لا بد من التفكير: هل أن حسم المسألة السورية أولوية بحد ذاتها للطرفين، أم مجرد امتداد للصراع الذي لا ينتهي بينهما؟

إن ادراك حقيقة الصراع في سوريا، يجب أن يقود المعارضة السورية إلى جعل أولويتها البحث عن مصالحها مع الجانب الأميركي، كما يفعل خصمها الذي يدرك تماماً أن بقاءه رهن بروسيا وحدها، ويبني استراتيجيته من منطلق أن علاقته بها هي الثابت الوحيد في معركته الوجودية، بينما تدور علاقاته بكافة الأطراف الأخرى في فلكها. ويكفي أن نفكر بتروٍّ في موجة التطبيع العربية والتركية، لندرك أن موسكو هي النقطة ولادتها، وأن ذلك ليس في سياق سوري بحت، ولا كُرمى لعين رأس نظامها، بل في إطار صراع محتدم بين معسكرين متواجهين في عالمنا المعاصر، في جانبه الغربي كل من أميركا وأوروبا، وفي جانبه الشرقي الصين وروسيا، بينما تقع سوريا المتنازع فيها وعليها، في المكان والتوقيت الحرج.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا