صيدناويون في سجن حلب المركزي

حسام جزماتي

جسر: متابعات:

أُسدلت ستارة النهاية مؤخراً على مصير أحد معتقلي السلفية الجهادية لدى النظام، عندما استلمت عائلة الشاب الحلبي سلمة مجاهد شعبان وثيقة تثبت وفاته في شباط 2015، بعد أن كانت أخباره قد انقطعت قبل أشهر من ذلك، مثله مثل بقية سجناء صيدنايا المنقولين إلى سجن حلب، الذين عاشوا حصاره ثم كسر الطوق عنه. يرجّح متابعون أن يكون التاريخ المذكور هو يوم إعدام سلمة بعد محاكمة ميدانية، ويخشون أن يكون هذا مصير المجموعة كلها.

سلمة شعبان
سلمة شعبان

بدأت الحكاية في آذار 2011، عندما حاول النظام احتواء الاحتجاجات المتصاعدة بعدد من القرارات التي كان منها إحالة السجناء السياسيين إلى المحاكم العادية ونقلهم بالتالي من السجن العسكري الأول (صيدنايا) إلى السجون المدنية في المحافظات التي يتحدرون منها؛ أبناء دمشق وريفها إلى سجن دمشق المركزي (عدرا)، وحلب وريفها إلى سجنها المركزي (المسلمية)، وهكذا…

خضع هؤلاء لإعادة محاكمات، وأتيحت لهم الاستفادة من فساد القضاء، ومن الإعفاء من ربع المدة، ومن مراسيم العفو المتتالية التي شملتهم كما سواهم. كان معظم السجناء السياسيين في البلاد وقتها من الإسلاميين، ومعظم هؤلاء من السلفيين الجهاديين، ومعهم ستنشأ قضية «سجناء صيدنايا» الرائجة.

كان تحرير الإسلاميين هو الهدف الأول للحصار، كما تحرير معتقلي الثورة الذين يتراوح عددهم بين 600 إلى 700، فيما لم يُعرف مصير حوالي ثلاثة آلاف سجين جنائي لو استطاعت الفصائل اقتحام السجن

إلى حلب سيُنقل أبناء المحافظة، ومعهم سجناء إدلب واللاذقية اللتين تعذّر نقل المعتقلين إليهما بسبب ظروف أمنية غير مواتية أحاطت بالسجنين المدنيين هناك. تقاطر المعتقلون على الخروج تدريجياً خلال عامين، بانتهاء مدة الحكم أو بربع المدة أو بعفو، حتى بقي في «جناح السياسيين» بسجن حلب حوالي 60 من المعتقلين عندما أتمت الفصائل المعارضة في الخارج حصاره، في نيسان 2013. كان تحرير الإسلاميين هو الهدف الأول للحصار، كما تحرير معتقلي الثورة الذين يتراوح عددهم بين 600 إلى 700، فيما لم يُعرف مصير حوالي ثلاثة آلاف سجين جنائي لو استطاعت الفصائل اقتحام السجن، وهو الأمر الذي حاولته مراراً ولم تنجح، حتى تمكن النظام من الوصول إليه مجدداً في أيار 2014، وانقطعت أخبار نزلاء جناح السياسيين، من إسلاميين وعدد قليل من الأكراد وغيرهم. قيل إنهم نُقلوا إلى مركز احتجاز مؤقت في مدينة حلب، ثم ظهرت لهم آثار في سجن عدرا، قبل أن يُرسَلوا للتحقيق في الفروع الأمنية بتهمتَي التمرد والتخابر، وتختفي أخبارهم نهائياً.

عندما كُسِرَ الحصار كان عدد جناح السياسيين أقل من خمسين نتيجة أعمال الانتقام التي مارستها حامية السجن عليهم إذ اعتبرتهم عملاء للمهاجمين، وبفعل الأمراض ونقص التغذية، وأحياناً بسبب التبادل مع النظام، وفي حالة واحدة على الأقل نتيجة هاون «صديق» أطلقته الفصائل.

كما هو الحال في السجون المدنية، كان هؤلاء قد تمكنوا، بمزيج من الرشوة والخبرة والزيارات السابقة، من الحصول على هواتف نقالة وفتح حسابات على فيسبوك، كان لها دور كبير في نقل أخبار الحصار. ربما كان من أنشط هذه البروفايلات حساب مخلص أبو البراء العائد للسجين الإسلامي مخلص إبراهيم البيور، المولود عام 1981 في بلدة كفر رومة بريف إدلب.

دون أن يقصد، وعلى مدى عام من الجوع والعطش والرعب والفوضى، يبني مخلص أبو البراء نسيجاً درامياً متصاعداً عبر منشوراته المتقطعة التي تبدأ ببعض المشاركات من صفحات عامة، ثم يشرع بالكتابة التي نقتبس منها هذه المختارات:

ـ السلام لجميع الأخوة. اعذروني عن محادثتكم فظروفي صعبة والتغطية سيئة. ادعوا لي فأنا في هذه اللحظة بحاجة لدعواتكم.

ـ رامز السيد عمر بن حسيب مواليد 84، متزوج وله ثلاثة أولاد، سكان حلب صلاح الدين، شنق نفسه جراء الواقع الصعب. ساعدونا بنشر الخبر ليصل لأهله.

ـ نحن بخير. أرجو إيصال هذا الخبر لأهلي فمن الصعب جداً الاتصال.

ـ معركة فجر الأمس بدأت بانفجار وأنا أصلي سنّة الفجر فسقطت أرضاً وعم الصمت لحظات. ونحن في صلاة الفجر انطلق الانفجار الثاني وكان أضخم من الأول، وبدأت معركة استمرت ست ساعات.

ـ لم أكن أتصور يوماً أنني سأكون مساعد طبيب في عملية شق بطن. خفت للوهلة الأولى ولكن حياة صديقي متوقفة على هذه العملية، فجدار بطنه مخترق برصاصة. وتمت العملية وأخرجنا 5 ليترات من الدم والقيح وغسلنا بطنه بالماء الساخن وتحسنت حاله.

ـ أعتذر لجميع من راسلني عن الرد فوضع البطارية لا يسمح لي، خاصة أن الرد على كل رسالة يستغرق 5 دقائق لسوء الشبكة، ومكان التغطية يصله الرصاص فوجودي فيه خطر.

ـ الحرية تاج على رؤوس الأحرار لا يراها إلا الأسرى.

ـ الشبع تاج على رؤوس الشبعانين لا يراه سوى الجوعانين.

ـ أمس توفي عندنا ثلاثة متأثرين بمرض السل، ليصبح العدد خمسة ماتوا بهذا المرض الذي وصل عدد المصابين به في سجن حلب لحدود 200. وقد ظهر نتيجة قلة الغذاء وأخذ بالانتشار ولا يوجد دواء والوضع ينذر بكارثة.

ـ لائحة أسعار سجن حلب المركزي حسب يوم أمس: (باكيت الدخان 40 ألفاً، سيكارة واحدة 2500، 1 كغ سكر 15 ألفاً، 1 كغ رز 5000، ظرف شاي 200 لكأس واحد، 1 كغ برغل 5000، علبة سردين 1500، علبة طون 2000، علبة مرتديلا 2000، لتر الزيت النباتي 1500، علبة معكرونة 2000، 1 كغ طحين 1000). قد تسألون من أين تأتي السلع فأقول هناك بعض الشرطة يبيعون السجناء من مخزوناتهم لأنهم يخزنون طعاماً ومما تلقي لهم الحوامات، وطبعاً لسنا أغنياء ولكن كان قبل أشهر مسموح بتحويل نقود عبر مكتب في الجميلية.

ـ اتخذت إدارة السجن بالتنسيق مع الجيش والشبيحة الموجودين بالسجن [قراراً] بأنها لن تقبل بأي اتفاق أو حل نابع من مفاوضات تؤمن حلاً جزئياً كإدخال دواء وطعام وأنها تريد حلاً جذرياً وهو أن ينسحب الثوار من المنطقة ويتم فتح الطريق مجدداً دون أي شرط أو قيد. يأتي هذا في ظل تخفيض كمية الطحين القليلة أساساً وأنباء عن قرب انتهائه.

ـ قام ضابط، بصحبة شرطة وشبيحة مسلحين، بالمرور على غرف السجن كافة وتوجيه تهديد شديد اللهجة بأنه في حال انتهاء الطحين وإقدام السجناء على أي عمل عصياني فهناك أوامر من القيادة بالقتل المباشر وليبلغ عدد القتلى ما يبلغ.

ـ بسبب عدم تنظيف خزانات المياه أو تعقيمه بمادة الكلور منذ 5 شهور حسب عمال الصيانة الذين أكدوا أن الخزنات مليئة بالعوالق والأوساخ ومئات السجناء يشكون من إسهال حاد وإقياء شديد وارتفاع حرارة ولا دواء.

ـ تم تغيير نوع الطعام في اليومين الأخيرين من كأس كبير طحين (150 غ) إلى كأس شاي صغير برغل ما يعادل (75 غ) ناشف غير مطبوخ يقوم السجناء بنقعه بالماء وأكله.

ـ عاجل: قام الطابق الثالث والثاني برفض كمية البرغل فبدأت الشرطة بإطلاق النار في الكوريدورات وهددت بقتل البعض فرضيت بعض الأجنحة بإدخال الطعام أما أجنحة أخرى فهددت الشرطة. فأتى ضابط وأخبر السجناء قائلاً: “ابعتوا لأهاليكن يجيبولكن أكل، نحنا عنا عناصر بدنا نطعميها وإنتو إذا بتموتوا من الجوع ما بهمنا”.

ـ وقوع قتيلين في الطابق الثالث بسبب إطلاق الشرطة النار لإجبار السجناء على أخذ البرغل الناشف.

ـ بعد غياب معنى الشبع طيلة 5 أشهر تقريباً غمرنا الهلال الأحمر الموقر بوجبة رز كافية ومشبعة. ولم يقف كرمهم عند الرز، بل ولأول مرة منذ شهور طويلة نحصل على قطعة خيارة وبندورة واحدة وتفاحة واحدة.

ـ 11 عيداً خلف القضبان: مر أول عيد علي في المعتقل في فرع فلسطين في أيامي الأولى حيث التعذيب وألوانه والتحقيق ومرارته، فكان علي وقعه أشد وأصعب من التعذيب وآلامه لا على نفسي ولكن لأن وجودي في السجن في هذا اليوم سيحيل عيد أمي وأخوتي وأهلي إلى يوم أحزان ودموع. وتوالت الأعياد علي في الزنازين، وكان العيد كابوساً.

ـ أول الغيث قطرة: بعد امتناع النظام مدة طويلة عن إخراج أحد من المعتقلين السياسيين في سجن حلب، وخاصة سياسيي ما قبل الثورة، وحتى من أنهى مدة حكمه؛ تم إطلاق ستة من زملائنا ضمن صفقة بين الثوار والنظام. وعلمنا أنها الأولى وليست الأخيرة.

ـ بالأمس وزن أحد رفاقي نفسه أمامي فأصبت بالذهول. رجل طوله 174 يبلغ وزنه 45 كغ.

ـ تنويه: بعض صفحات الفيس تناقلت خبر تحرير سجن حلب وإسعاف مرضاه وإطعام الباقي من لحم الأضاحي. نشكرهم على اهتمامهم ولكن شيئاً من هذا لم يحدث إلا في صفحاتهم.

ـ بعد حصار طويل ونتيجة المعارك المستمرة والقصف وغياب أدوات التصليح والترميم تحول السجن لخرابة مزرية. ظلام دامس ودخان قاتل وروائح الصرف الصحي تملأ السجن والجرذان والفئران أصبحت وباء.

ـ الإخوة الأفاضل: بسبب سوء شبكة النت لدي وكون جهازي قديم فالرد على رسائلكم بالغ الصعوبة لذا أرجو المعذرة. ولعل برنامج الواتس أب أسهل وأسرع فمن يود مراسلتي عبره هذا رقمي xxxxx.

ـ ضاقت: نحن نمر بأشد لحظات السجن، فبعد أن كان سجانونا يستهدفونا من النوافذ والباب برصاصهم لم يكتفوا فأحدثوا في أسقف الجناح فتحات وبدؤوا برمينا برصاصهم وقنابلهم كلما استهدفهم الثوار بقذائفهم. والثوار، رغم طلبنا بوقف الاستهداف الذي يؤذينا أكثر مما يؤذي الجيش، يرفضون وقفه.

ـ ضمن مسلسل تحرير سجن حلب تم فجر أمس عرض الحلقة العاشرة حيث حاول الثوار اقتحامه ولكن فشل الاقتحام.

ـ في طريقه إلى السجن تعرض الهلال الأحمر وعلى دوار الجندول لاعتراض أحد حواجز الثوار وقاموا بإنزال الطاقم وضربه “فلقة مرتبة” حتى التورم مما جعل الطاقم يعود بحمولته التي هي طعام لثلاثة آلاف سجين.

ـ اليوم تحدث إلينا مدير السجن عن نتائج غياب الهلال وقال إن وضع السجناء مأساوي وأكد لنا أن عدداً  توفي خلال الأيام الماضية بسبب الجوع يقارب 50 سجيناً. إن صح قول مدير السجن فهذا رقم مذهل بل هذه مجزرة.

ـ صدقوا أو لا: شاهدت هذه الصورة عند خال ابنتي فتأملتها وقلت أظن أني أعرف هذه الفتاة. لاحظت وجود كتابة فقرأتها فإذا بها ابنتي:

02.jpg

لاحظوا الفرق: بين الصورتين عام في الواقع، ولكن يشعر مشاهدهما بأن بينهما قرناً:

03.jpg

ـ أعوام مرت ونحن لا نرى من الشمس سوى هذا المشهد:

05.jpg

ـ غياب الهلال لمدة أسبوع، وانقطاع المياه لأكثر من عشرة أيام، أحال السجن لمنطقة تعج فيها رائحة الموت وتعلو صرخات الجائعين وأنينهم.

ـ أنقذونا نحن نذبح. الجيش يفتح علينا الأسقف وسيقتلنا.

ـ الذي جرى: ضرب المحاصرون السجن بالهاون فهاجم الجيش الجناح من السقف فأحدث عشرين فتحة رمى منها مئات الطلقات وعشرات القنابل. الحصيلة شهيد و5 جرحى حالة أحدهم خطيرة، وما يزال الخطر قائماً.

ـ نحن هنا بسجن حلب بالإجماع نقول: لا نريدكم، ارحلوا عنا، لا نريد حريتنا من أيديكم الملطخة بدماء إخوتنا. روحوا تعلموا كيف الناس بتقاتل، كيف بتفك أسرى، كيف بتفاوض، كيف بتسايس. وأنا شخصياً لولا سوء إدارتكم لكنت خرجت لأني أنهيت حكمي وأنتم سبب عدم خروجي. أنا لست ضد تحرير السجن، وكيف أكون ضده وأنا داخله! إنما أنا أهتم بالفعل وليس بالشعارات والادعاءات والقول فقط. نريد تطبيقاً على أرض الواقع لوعودكم، ولقد جربنا اقتحاماتكم 11 مرة وفشلت بسبب سوء تخطيطكم.

ـ لله الحمد: بعد يوم عصيب شديد جداً تسبب به من استهدف السجن بقذائفه العبثية، وما تبعه من توتر وخوف وقلق شديد لعدة أيام بوجود فتحات فوقنا قد يأتي الموت منها في أي لحظة؛ أنعم الله علينا اليوم فأراحنا منها وسدها الشرطة بوجود عناصر الهلال الذي أتى ومعه طعام وماء.

ـ نهاية الحصار هزيمة وعار: بعد سنة وربع من الحصار الخانق، وما يزيد عن 800 سجين ميت، و5 مليارات ليرة، وويلات من العذاب أذقتمونا إياها بحجة تحريرنا؛ ها أنتم الآن تنسحبون بطريقة مخزية بدون مقاومة حتى. لن يسامحكم من آذيتموه هنا وستلاحقكم لعنات أرواح الشهداء ودعوات الثكالى والأرامل والأيتام. اتركوا سلاحكم فلستم أهلاً لحمله.

ـ إلى اللقاء: لعل هذا آخر ما سأكتبه، فنحن نعد أنفسنا كي يأخذونا لسجن جديد يقال إنه بجانب مطار النيرب. سامحونا ولا تنسونا من دعواتكم.

24 أيار 2014/ الساعة 01:55 PM.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا ٥ تموز/ يوليو ٢٠٢٠

قد يعجبك ايضا