علاقة الشعب بالسلطة في مسرح الراحل سعد الله ونوس

إياس اليوسف

يعتبر المسرح من أكثر الفنون الأدبية التصاقاً بحركة المجتمع لأنه الفن الذي يمتح موضوعاته من الحياة مباشرة، ولأنه الفن الوحيد الذي يتوجه توجهاً اجتماعياً مباشراً في محاكاته للحياة بما تحمل من مشكلات وفي تحليله لها وتصويره لإنسانها في كل أوضاعه، وبذلك يصبح المسرح مداراً للصراع الاجتماعي والسياسي بين مختلف المنازع الفكرية والسياسية في الوطن العربي. ومع أنه لا يمكن فصل جانب عن جانب في مسرحنا الحديث فإن لكل مسرحية جانباً أساسياً، تنطلق منه وترتبط به بقية الجوانب.

وقد قسم النقاد المسرح إلى أنواع منها: المسرح الاجتماعي – المسرح القومي – المسرح الشعري – المسرح السياسي الذي يهتم بالأحداث السياسية اليومية والعامة وبالعلاقات التي تنشأ بين الشعب وإداراته السياسية بين الشعب والسلطة، ومرتكزها الأساسي أنها تتصدى لأجهزة الحكم تحليلاً وفضحاً. والمسرح السوري “السياسي” المعاصر اهتم بجملة قضايا تهم المواطن منها: قضية المساواة والعدالة الاجتماعية وقضية علاقة المواطن بالسلطة. ونحن في دراستنا هذه سنتوقف عند قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح سعد الله ونوس. لقد كان لنكسة حزيران (يونيو) أو لهزيمتنا كعرب في حزيران 1967 دور كبير في إيجاد وانتشار المسرح السياسي في سورية إذ لم يكن هناك على حد معرفتي مسرح سياسي اللهم إلا إذا اعتبرنا المسرحيات القومية والوطنية التي وجدت قبل هذا التاريخ من المسرح السياسي، وإن كان الفرق بين هذه التسمية وتلك فرقاً كبيراً ولن ندخل هنا في تفصيل هذا الأمر لأنه ليس مجال دراستنا. فبعد سنة 1967 بدأ الكتاب يفتشون عن أسباب الهزيمة فكانت ولادة عدد من المسرحيات السياسية التي تعالج وتحلل وتحرض وتسيس، ومن ذلك مسرحية “حفلة سمر من اجل 5 حزيرا”’ عام 1967 و”مغامرة رأس المملوك جابر” عام 1971 و”الفيل يا ملك الزمان” عام 1971 لسعد الله ونوس و”محاكمة رجل لم يحارب” لممدوح عدوان، وبعض مسرحيات فرحان بلبل ووليد إخلاصي وغيرهم، وكلها تنتمي إلى المسرح السياسي.

إن الدارس لمسرح سعد الله ونوس يرى أنه قد ركز في مسرحه على عدة قضايا أو لنقل على معظم القضايا التي اهتم بها المسرح السياسي والتي ذكرناها آنفاً لكن أهم قضية رصدها وناقشها وحللها في مسرحه هي قضية علاقة المواطن بالسلطة، والمتمعن في الأعمال المسرحية السياسية لونوس سيلحظ وبسهولة هذه العلاقة غير الحميمية بين المواطن وحكامه و موقف المواطن السلبي منها. ولعل ونوس من بين المسرحيين السوريين من اهتم بموقف المواطن لعمله الدؤوب في قضية التسييس التي نظر إليها من خلال المتلقي وما يجب أن يكون عليه، فقد بنى جزءاً كبيراً من مسرحه على مسألة تبني الإنسان العربي لمشروعه الحضاري بنفسه أي أن يكون له موقف كما يقول أحد نقاد المسرح المسرح السياسي في سورية.وسنلقي الضوء على قضية علاقة المواطن بالسلطة في مسرح ونوس من خلال بعض مسرحياته “الملك هو الملك” و”الفيل يا ملك الزمان”، و”مغامرة رأس المملوك جابر”، في محاولة لاستجلاء خصائص تلك العلاقة، وسنعمد إلى عرض موجز ومكثف لمضامين هذه المسرحيات أولا ثم نقوم بدراسة شخصياتها لتوضيح علاقتها بالسلطة ثانياً.

مسرحية “الملك هو الملك” تقوم فكرتها الأساسية على استبدال إنسان بإنسان من خلال إبدال الثوب أي استبدال الملك بملك جديد وهي لعبة أرادها الملك الأصلي لدفع الضجر وللترويح عن النفس لذلك فقد احضر مغفلاً من عامة الشعب هو أبو عزة المغفل ليتفرج عليه ويلهو به، لكن مصالح الآخرين من أمثال الوزير وشهبندر التجار تقتضي استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة وبذا يصبح البديل أصيلا بينما يخرج الأصيل من اللعبة وبالفعل يخلع الملك رداءه ويلبسه أبو عزة المغفل فيصبح هو الملك. وتتوالى الأحداث ويرتقي أبو عزة العرش ويصرّف أمور الدولة كأي ملك يعرف واجباته. أما الملك الأصلي فيجن ليصبح في النهاية كأبي عزة المغفل. لقد وجدنا أبا عزة منذ بداية المسرحية رجلاً مغفلاً غارقاً في الأوهام فقد وضعه المؤلف في مدخل المسرحية وهو يدور كالأهبل فيما تقول عنه زوجته بأنه “غارق في الطاس والأوهام يحلم رغم فقره وجنونه بالسلطان والجواري”، لكنه يسقى في المشهد الثالث خمراً أو منوماً ليستيقظ في المشهد الرابع ملكاً يتصرف بحكمة تجعل الملك الأصلي ذاته يدهش لذلك. في المشهد الخامس من المسرحية يتأمل الملك الجديد أبو عزة بلطة السياف بنظرة يملؤها الشبق ويقول للسياف: “أيها السياف قف على يميني واجعل بلطتك في متناول يدي وتنفذ في مسامي حتى يندغم واحدنا بالآخر الملك والبلطة.. الملك هو الذي سينفذ الأحكام التي يصدرها لا شيء يطهر الملوك مثل الدم .. سأغتسل بالدم .. سأستحم فيه”.

وقد حدد ونوس علاقة المواطن بالسلطة في بداية مسرحيته “الملك هو الملك” بأنها علاقة حرب فهي حرب بين المسموح والممنوع بين الرعاع والدهماء والعامة من جهة، والسادة من جهة أخرى. الفئة الأولى تطالب دائماً ولا تمل من فرض الممنوع. هي حرب تتخذ أشكالاً متعددة بين الشعب من جهة والسلطة من جهة ثانية بأجهزتها جميعاً. إن المدقق في شخصيتي الملك) وأبو عزة يتضح له أن السلطة لا يهمها المواطن فهي في واد والمواطن في واد آخر. فالملك عندما يتجول في المدينة مع وزيره يجدان أبا عزة تائهاً هائماً على وجهه، غارقاً في أوهامه وهمومه، ومع ذلك لم يثرهما منظره الذي يدعو الى الشفقة بل وجدا فيه ما يدعو إلى الضحك فأخذه الملك معه إلى قصره ليلهو ويروّح به عن نفسه مع حاشيته. وعندما يلعب الملك لعبته ويتسلم أبو عزة العرش يحكم بطريقة الملك نفسها، الظلم والاستبداد، إذ لا يهمه إلا عرشه، فنظام الحكم يبقى نفسه وإن تغير شخص الحاكم.والمتتبع لمسرح ونوس يستشعر إلحاحه الشديد على مسألة سلبية المواطن وعدم قدرته على المشاركة في كل ما يدور حوله، هي فكرة مبثوثة في مسرحياته جميعاً، فالمواطن خائف من السلطة، متردد، صامت إزاء الظلم، مستسلم لقدره، والجماعة كذلك متخاذلة إلى أبعد الحدود أمام السلطة. لقد فقد المواطن حريته أمام السلطة منذ أقدم العصور، والحرية مسلوبة لأن حراباً مشرعة وسجوناً مفتوحة الأبواب، فما أسرع غياب المواطن لأتفه الأسباب في أقبية السلطة (لوشاية أو كذبة). في مسرحية “الملك هو الملك” تتحرر أم عزة من الخوف لأنها تظن نفسها في مأمن من السلطة فتمارس نقدها بحرية تامة أمام الملك المتخفي فتصرح بالظلم الواقع على الشعب غير هيابة لأنها تظن أن السلطة لا تسمعها.مصطفى: ماذا ستقولين له؟ أم عزة: ماذا سأقول له؟ على لساني أحمال من الكلام . سأقول يا ملك الزمان، العيارون واللصوص يحكمون البلاد وينهبون أرزاق العباد .. العدل نائم وليس هناك من يفتش أو يحاسب.

مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” في هذه المسرحية يقوم صراع بين الخليفة ( شعبان) ووزيره ( محمد العلقمي)، الخليفة يريد إزاحة الوزير لأنه يشكل خطراً على وجوده، والوزير يطمح لتحقيق حلمه بالاستيلاء على الخلافة، وكل واحد منهما يعد العدة لإزاحة صاحبه، فيأمر الخليفة بتفتيش الخارج من المدينة والداخل إليها، خوفاً من خروج رسالة من الوزير العلقمي الى قائد المغول، يتطوع احد مملوكي الوزير وهو “جابر” الذي يعرض خدماته على الوزير فيقوم الأخير بتكليفه بالمهمة التي كانت على الشكل التالي وهي فكرة (جابر): أن يقوم الوزير بكتابة الرسالة على رأس جابر بعد حلاقته جيداً وحينما ينمو الشعر ثانية ويغطي الرسالة، آنذاك يستطيع الخروج إلى حيث يريد، وطلب ثمن أدائه لهذه المهمة أن ينال حريته ويتزوج من ( زمردة) جارية الوزير، وفعلاً يتم إرسال جابر إلى قائد المغول ولكن الوزير يطلب من ذلك القائد ان يقتل حامل الرسالة جابراً الذي حمل موته تحت فروة رأسه ولم يدر.. كما قال سعد الله في المسرحية. وسنلقي الضوء هنا على شخصيات المسرحية وهي: الخليفة – الوزير – منصور – الرجل الرابع – المملوك جابر. الخليفة والوزير: وهما شخصيتان سلطويتان تتفردان بالحكم الذي لا هم لهما سواه وتضطهدان بسببه أفراد الشعب عموماً. فالخليفة يريد توطيد حكمه وتثبيته من خلال البعد والتباعد عن الشعب والتخلص من وزيره الذي يهدده بغية الخلاص منه بالتعاون مع أعداء البلاد المغول لينصبوه على العرش والنتيجة هي ضياع الوطن والمواطن. شخصية منصور: المواطن نصف الواعي، ثرثار من الناحية السياسية والناس يحسبونه مخبراً بسبب ثرثرته.الرجل الرابع: شخصيته متممة لمنصور، وهو رجل واع سياسياً واجتماعياً وفكرياً. المملوك جابر: شخصية تمتاز بالذكاء والفطنة، وهو انتهازي، باعتماده على الفطنة والتقرب من الوزير ( العلقمي) يريد أن يصل إلى مآربه ولكنه يدفع ثمن انتهازيته غالياً.

إن ونوس في مسرحيته هذه يؤكد على دور الجماعة في العمل السياسي إذ لا جدوى من العمل الفردي كمطلب للخلاص، والإنسان غير المسيس ستستغله السلطة وتسحقه كما حدث للمملوك جابر الذي أراد أن يتحرر من عبوديته بطريقة الخيانة فكان الثمن أن ضيع رأسه.- والمسرح السياسي لا يهتم بالشخوص كأفراد أو أنماط فقط، وإنما يشبعها بالقدرة على الترميز لأن المسرح يعتمد في أحايين كثيرة على الإيحاء والرمز والدلالة لا على التحديد والتعيين فقط، فقد أكد ونوس على جابر مثلاً باعتباره رمزاً للطبقات المضطهدة والفقيرة غير القادرة على المطالبة بحقوقها مع كونها تفكر بها سراً وهي مستعدة لفعل كل عمل شائن في سبيل تحقيق طموح ذاتي.إن خيبة جابر لا تعني إحباطاً لطموحات الجماعة بقدر ما تعني خلق حافز ورافد ذاتيين لدى أفراد المجتمع لتبصر أمورها ومصيرها. وسعد الله لا يتدخل في إيجاد مصائر لشخوصه أو تفسير قضاياها. وفي رأيي أن استخدام ونوس الحكاية التراثية وإظهاره لطريقة استغلال الحاكم الطاغية

للمواطن غير الواعي وغير الفاعل بهذه الصورة البشعة له مدلول عظيم ( كتابة رسالة الخيانة على رأس جابر ومن ثم قطعه بطريقة بشعة) على تفاهة الإنسان الانتهازي وأن نهايته ستكون بهذه البشاعة والمأساوية وإن كان قطع رأس جابر أثار مكامن الحقد والكراهية على الجلاد . إن التسييس والشحن والتحريض هي مرتكزات سعد الله ونوس الأساسية في مسرحه الذي يقول: ( أريد مسرحا يعلـّم ويحفز على العمل، أي أن يزيد احتقان المتفرج وهو يعلـّمه).وفي مسرحية ‘ الفيل يا ملك الزمان’: يصوّر ونوس فيها فيلاً يعيث فساداً في المدينة يقتل ويدمر ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً ولا حتى أن يشتكي للملك بسبب القمع والخوف: (- نشكو أمرنا للملك؟ – ندخل القصر؟! – ولم لا؟ – ومن نحن حتى نتحدث مع الملوك؟) الناس يخافون من السلطة لأنها تمثل في أذهانهم مجموعة من الرموز التي تدل على الجبروت والتعسف والجور فقط.

ففي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” تحمل الشخوص اضطهادها وقهرها ولا تسعى إلى تأكيد ذاتها إلا من خلال الجماعة التي تنتمي إليها فقط. من الملاحظ كثرة الشخصيات السلبية في مسرح ونوس. فهي شخصيات في غالبيتها خائفة – مستلبة – خانعة – مشتتة – انتهازية – مضطهدة – لا تحمل من المبادئ ما يبث أي بارقة أمل في الخلاص كشخصيتي ( أبو عزة – وشهبندر التجار) في مسرحية ‘ الملك هو الملك’ . فالأولى مستلبة وخانعة ومشتتة والثانية انتهازية. وكذلك شخصية ( جابر) الانتهازية ومعظم شخصيات “الفيل يا ملك الزمان”. إن موضوع لامبالاة الجماهير وسلبيتها موضوع أثير لدى ونوس ،فلا مبالاة الناس بما يحدث يجرّهم الى الويلات والدمار والضرر حتى على الصعيد الفردي ،فهو يؤكد أن كل ما يجري في المجتمع بالنسبة للجماهير عليها أن تعيه
(الرجل الرابع في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”) وعليها أن تنخرط فيه وتؤدي دورها الفاعل وإلا حل فيها البلاء وهكذا نستطيع أن نقول: إن سعد الله ونوس أسس لمسرح سياسي في سورية خصوصاً، وفي الوطن العربي عموماً جسّد من خلاله علاقة المواطن بالسلطة ،من خلال ما ذكرناه من خصائص لبعض مسرحياته حيث رأينا أن هذه العلاقة كانت صراعاً دائماً بين المواطن والسلطة فهي تأخذ منه كل شيء وأهمها حريته وكرامته.

باختصار إنها تسلبه كل ما يمتّ إلى إنسانيته بصلة. والسؤال الذي نطرحه ونحاول الإجابة عليه في حدود إمكاناتنا الفنية هو: هل استطاع ونوس إيصال ما أراد إيصاله من خلال مسرحه إلى الجماهير؟ في رأيي إن سعداً حاول أن يخلق من خلال هذا المسرح وعياً جماهيرياً عن طريق التعليم والتسييس والتحريض مستخدماً كلّ ما أتيح له من تقنيات مسرحية فنية حديثة في العالم، ولكنّ مسرحاً مثل مسرح ونوس يحتاج إلى جمهور من نوع خاص إلى جمهور يمتلك مقومات متلق يعمل ذهنه فيما يرى ويسمع ،ولكن هل استطاع ونوس أو غيره من من خلال المسرح السياسي منذ منتصف السبعينيات وحتى بدايات الألفية الثانية من تسيس وتحفيز الشعب السوري ليكون قادرا على القيام بما قام به من ثورة ضد النظام السوري في ربيع 2011؟

قد يعجبك ايضا