على أعتاب ما بعد الحرب على الإرهاب

عبد الناصر العايد

هناك اعتقاد واسع بأن حقبة الحرب على الإرهاب شارفت على نهايتها، وأن انبعاث بعض التنظيمات الجهادية في افريقيا وأسيا الوسطى وغيرها، يجب أن يصنف في خانة “الحروب اللا منتهية” التي تثير الصداع بين الحين والآخر، لكنها ليست خطراً داهماًن ولا مدعاة للفزع الكوني. ومن هذا المُنطلق، يُعقد في الرياض، الشهر المقبل، اجتماع وزاري لدول التحالف الدولي ضد داعش، هدفه الأساس كنس بقايا تلك الحرب وطيّ صفحتها، على عكس ما يدعو إليه شعار المؤتمر القائل “إن الحرب على داعش لم تنتهِ”.

ويسعى المؤتمر المشار إليه إلى جمع مبلغ 600 مليون دولار، كان مؤتمراً عقد في برلين في الشهر الفائت قد حددها، لفرض الاستقرار في المناطق التي شهدت الصراع ضد تنظيم داعش في شمال شرقي سوريا وغرب العراق، فالسكان الذين لا يتلقون خدمات كافية، مثل سكان مخيم الهول، عرضة للتأثر بدعاية المتطرفين!

قد لا يقنع القول بنهاية الحرب على الإرهاب، الكثيرين، ويجدون أنه صدى لتراجع حدة الدعوة لمكافحة الإرهاب في الخطابين الرسمي والإعلامي الغربيين، وربما كان الدفاع عن هذه الفرضية صعباً بالفعل في مرحلة سابقة. لكننا اليوم نستطيع الاستشهاد بوقائع ملموسة وقادمة من داخل مراكز إدارة الصراع، من جانبيه الرئيسيين وهوامشه. فوزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، الذي احتج على التراخي الأميركي في هذه الحرب، هو مَن يشرف على أجهزة مكافحة الإرهاب في بلاده وبرامجها التي تنسق من كثب مع الحليف الأميركي، ولا يمكن تفسير سفره إلى واشنطن وتعبيره العلني عن الاستياء والسخط أمام المؤسسات الأميركية، سوى بتوقف تلك البرامج مركزياً من دون أخذ الحالة الفرنسية الخاصة في الحرب ضد التنظيمات المتطرفة في الاعتبار.

وفي المعسكر الجهادي أيضاً، تتسارع المعطيات والإشارات من مراكز القيادة إلى تراجع جاذبية تلك الحرب وتدني رصيدها بين أعضائها وجمهورها ولدى منظّريها الاستراتيجيين. فصحيفة “النبأ”، وهي لسان حال قيادة داعش، عنونت افتتاحية عددها الأخير بـ”القلة المؤمنة”، في إشارة إلى تراجع عدد المنضوين تحت جناح التنظيم اليوم، حيث “تشتد غربة أهل التوحيد” و”يتساقط المتساقطون ويكشف الله زيف المنافقين وتبقى القلة المؤمنة صابرة سائرة في الطريق وحدها عكس كل التيارات”. ويضيف كاتب المقال قائلا: “إن الكثرة مذمومة في شريعة ربنا”.

وبخلاف موقف داعش هذا، من واقعة انحسار وتراجع التأييد له، انتهجت هيئة تحرير الشام، التي نشأت أساساً كفرع لتنظيم القاعدة، مساراً أكثر سياسوية وتكيفاً مع الواقع الجديد. وأعلن أحد رموزها وقادتها، وهو ميسر بن علي الجبوري الملقب بـ”أبو ماريا القحطاني”، في تصريحات لقناة “فرانس-24″، أن تنظيمه لم يعد “حركة جهادية” وأن فكرة “الجهاد” انتهت من صفوف الحركة، بل إن مهمتها اليوم هي محاربة الجهاديين من داعش والقاعدة!

يمكننا أيضاً اكتشاف المزيد من التأكيدات لما ذهبنا إليه، بتفحص مواقف أنظمة المنطقة من القضية. فهذه الأنظمة التي اعتاشت طويلاً على الترويج للخطر الإرهابي، ولدورها في محاربته كوكيلة محلية للغرب، لم تعد تتطرق إلى هذه المعضلة من قريب أو بعيد. فرأس النظام السوري مثلاً، الذي شن حرباً مدمرة على الشعب السوري تحت هذه الذريعة، لم يُشر إليها في خطابه الأخير في الجامعة العربية، ولم تعد المفردة جزءاً رئيسياً من خطابه الخارجي كما كان معتاداً، وبات دورها ينحصر في تبرير المجازر والانتهاكات الداخلية.

لقد مرّت الحرب على الإرهاب، كظاهرة عالمية، بمسار صاعد، بدأ من التنظير الغربي للخطر الإسلامي كبديل للخطر الشيوعي بُعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستدعى صدى في العالم الإسلامي تمثل في هجمات 11 أيلول وما تبعها من احتلال أفغانستان وغزو العراق. وبلغ المسار ذروته بإعلان “دولة الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق”، التي آذن إجهاضها العام 2019 ببدء المسار الهابط المتسارع. فقد تقلصت رقعة الحرب ونوعيتها، وصولاً إلى الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتضاؤل وجودها في كل من العراق وسوريا إلى حدود ضيقة يقتضيها الصراع الجيوسياسي مع إيران وروسيان لا الصراع مع الجهاديين والذي ينحصر اليوم فعلياً في المجال السيبراني والبيومتري وعبر طائرات الدرون.

وفي المرحلة المقبلة، وهي النهائية، سيجري تنظيف الميدان من بقايا الحرب، ليبدأ عصر جديد في الشرق الأوسط، لن يكون له عنوان صارخ بالضرورة، لكنه سيُبنى على أسس ومحددات جديدة، ويطرح مهمات وتحديات مختلفة يتعين على نُخب الحكم، والنُخب الفكرية والثقافية العربية، استكشافها وتمييزها ووضع تصورات استراتيجية للتعامل معها.

كما هو الأمر منذ البداية، حرّض الخطاب الغربي، الذي يحذر من الإرهاب الإسلامي، موجات من ردود الأفعال، يأخذ بعضها شكل التهديد الذي يجري التخويف منه فعلاً. وهكذا انتشرت تصريحات جيرالد دارمانان الذي نبّه من الإرهاب الإسلامي السنّي، كالنار في هشيم الإعلام الموازي الإسلامي، لكنه لم يحصد أي تفاعل في العالم الغربي. وبالنظر إلى دافع الوزير الفرنسي الأصلي لإطلاق هذا التصريح العاري، وهو توسل الأميركيين عدم مغادرة ساحة محاربة التطرف، يمكننا القول أن هذه الحرب التي اختُلقت لسد جوع آلة الحرب العالمية بُعيد خمود الحرب الباردة، قد انتهت صلاحيتها، وسيكون توقف التهويل الغربي بها وتجاهلها مدخلاً لتلافيها وأفول نجمها.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا