عن المونديال والسوريين والصراع الهوياتي

رشا عمران

لم تفتح الدول العربية أبوابها للسوريين إبان هروبهم من الجحيم الكبير الذي كان يمتد ليأكل كل ما يقع تحت يديه في سوريا بعد عام ٢٠١١، لم تفتح تلك الدول حدودها وتستقبل السوريين الناجين كما يليق بالأخوة والأشقاء أن يفعلوا، أما هذه الدولة أو تلك من الاستثناءات العربية القليلة التي فعلت ذلك فسرعان ما تراجعت ووضعت أمام وجود أو دخول السوريين إلى أراضيها شروطا تعجيزية، أو أقصتهم عن يوميات البلد وعزلتهم في مخيمات لا إنسانية، محرومين من أبسط حقوق البشر.

ما من استثناءات في موقف الدول العربية من السوريين، أتذكر هنا في عام ٢٠١٢ بعد أن توهم الجميع أن ليبيا بدأت تعود إلى سابق عهدها بعد عام من الحروب التي تلت سقوط القذافي، كنت مدعوة مع مجموعة من شعراء العالم للمشاركة في أول مهرجان شعر في طرابلس بعد الثورة، كنت يومها في باريس وسأعود إليها من ليبيا، سافرت عبر الخطوط التونسية مرورا بتونس العاصمة ثم طرابلس حيث حصلت على ختم الدخول في المطار، كان الأمر ميسرا وقتها، ما حدث في أثناء عودتي من ليبيا، ومعي شعراء فرنسيون وإنكليز، أننا غادرنا طرابلس على الطائرة التونسية نفسها التي تأخرت في الإقلاع لمدة ساعتين، وكان يجب أن ننتقل في مطار تونس إلى طائرة أخرى تغادر إلى باريس، وصلنا متأخرين بعد أن غادرت طائرتنا المتوجهة إلى فرنسا في موعدها ولا توجد طائرة أخرى سوى في اليوم التالي. خرج الفرنسيون الذين أرافقهم إلى العاصمة تونس للمبيت في أحد فنادقها، بينما رفض الأمن التونسي السماح لي بذلك لأنني سورية وأحتاج إلى موافقة أمنية أو استثناء من الخارجية التونسية.

كانت تونس يومها تعيش انتصارات الثورة، وكانت سوريا والسوريون يعيشون أسوأ أيام حياتهم، وأنا شاعرة واسمي موجود ضمن وفد شعري عالمي، ومع ذلك بت تلك الليلة في مطار تونس على البلاط البارد بينما أصدقائي الفرنسيون والإنكليز باتوا في أسرة فندق ما في العاصمة. قررت يومها وأقسمت أنني لن أعود إلى تونس مهما حصل ولن أدخل المطار التونسي ولو لدقائق؛ ذلك أنني شعرت بإهانة لم أعرفها طوال عمري، عوملت كما لو أنني إرهابية أو حشرة بينما من كنت معهم عوملوا باحترام يليق بكل البشر.

تلك الحادثة قد لا تشكل شيئا مهما بالقياس إلى ما حصل مع السوريين في المطارات العربية ومع رجال الأمن العربي، لكن أهميتها أنها حصلت قبل أن تلصق صفة الإرهاب بالسوريين، وحصلت في تونس التي كانت تتغير، كما يفترض، بعد انتصار ثورتها ورحيل بن علي. كان التعويل على مرحلة ما بعد الربيع العربي في العلاقة بين الشعوب العربية كبيرا جدا لدى شريحة كبيرة من العرب، وأنا منهم بطبيعة الحال، لكن يبدو أن ذهنية الأنظمة الأمنية التي حكمت بلادنا كانت قد أصبحت جزءا من الوعي العميق وبات تغييرها مستحيلا، وها هي السنوات وأحداثها تثبت ذلك، حيث استطاعت الذهنية إياها القضاء على كل بوادر التغيير في كل مكان اشتعلت فيه شرارة الربيع، بل حتى إنها تمددت أكثر ومارست علنا ما كانت تمارسه سرا ما قبل ٢٠١١، وكأن الربيع العربي حدث لتثبيت حكم الاستبداد والفرد والقمع الأمني، ولمنع الشعوب العربية ذات المصائر المشتركة من التواصل.

أحداث الربيع العربي وما تلاه سلطت الضوء على مشكلة خطيرة تعانيها شعوبنا، وهي مشكلة الهوية، فقد عزز الزلزال الكبير الذي أصاب هدا المنطقة من العالم الهويات الصغيرة على حساب الهوية الإنسانية الأكبر وعلى حساب الهوية القومية التي قوامها اللغة والتاريخ المشترك. وحين نتحدث عن اللغة فإننا ندرك أن ثمة لغات أخرى موجودة داخل اللغة الكبرى، كاللغة الكردية مثلا في سوريا والعراق أو اللغة الأمازيغية في بلاد المغرب العربي، واللغة النوبية في مصر.. اإلخ، وهو ما جعل اللغة العربية تتنوع بين منطقة وأخرى وتشكل لهجات مختلفة يصعب فهمها أحيانا. وتشكل معها حالة من الغنى والإضافة تجعل من اللغة حية وحيوية. بيد أن الحديث هنا عن اللغة المشتركة هو حديث عن الوعاء الثقافي الكبير الذي يضم داخله ثقافات أخرى تشكل كلها معا خصائص وسمات الوعي الجمعي لأبناء شعوب هذه المنطقة من العالم.

خلال العقد الماضي تعززت مثلا الهوية القطرية (حسب المفهوم البعثي) والهوية الدينية والمذهبية والهوية الطبقية والهوية الحضارية (الفينيقية والفرعونية والبابلية .. إلخ)، مشكلة هذه الهويات أنها تحمل داخلها ما لا يمكن إيقافه من كوارث العنصرية والشوفينية والاستعلاء والتنمر وخطاب الكراهية والنفور، وهو ما تعززه أنظمة الاستبداد الحاكمة حاليا وسابقا لأنه ببساطة يبعد نظر الشعوب عن الأسباب الحقيقية لمشاكلها ويجعلها تلقي بمسؤولية ما يحدث لها على آخر بهوية مختلفة.

ليس مفاجئا إذاً أن نشهد في مجريات المونديال الحالي المقام في قطر كل أنواع الصراع الهوياتي المختص بشعوب هذه المنطقة العرب وغيرهم. فمن الاستعلاء الحضري للشعوب القديمة على بلاد الخليج واعتبارها بلادا متخلفة لا حضارات سابقة لها (وكأن الحضارات القديمة قد نفعت مصر وبلاد الشام والعراق)، إلى محاولات تجيير المونديال إلى الهوية الدينية الإسلامية وكأن ما يحدث حدثا إسلاميا لا حدثا عالميا ينتقل من مكان لآخر كل أربع سنوات. إلى التنصل من العروبة كما فعل مدرب الفريق المغربي إثر صعود فريقه إلى دور الربع النهائي بعد إقصائه المنتحب الإسباني (وما قاله كثر من المسلمين عن أن هذا انتقاما للأندلس ومحاولة استعادتها). متحدثا عن أفريقيا (وهي هوية أخرى) وعن الأمازيع.

تنوع موقف السوريين من الحدث المونديالي القطري بتنوع مواقفهم وإيديولوجياتهم، وظهرت أيضا صراعاتهم الهوياتية فيما يخص المونديال ومكان حدوثه. لكن الموقف الأكثر حضورا حاليا هو المعبر عن الخذلان من الدول العربية التي أغلقت أبوابها في وجه السوريين، وأن مساندة العرب في المونديال والفرح بانتصار هذا المنتخب العربي أو ذاك هو موقف عاطفي (أهبل)، “علينا أن لا ننسى ما أصبنا به من الخذلان كسوريين من قبل هذه الدول خلال العقد الماضي”. في الحقيقة يبدو هذا الكلام مفهوما وواقعيا لولا أنه يخلط بين الأنظمة والشعوب، ويحمل الشعوب مسؤولية قرارات أنظمتها، وهو أمر يجب أن نقيسه أولا على أنفسنا كسوريين في سوريا قبل ٢٠١١، هل كنا نتحمل كشعب مسؤولية قرارات النظام السياسية ومواقفه من شعوب العالم؟!

في ظني أننا وبسبب الخذلانات والانكسارات والهزائم الطويلة التي منينا بها كسوريين بتنا نثقل كاهل كل شيء بأزمتنا الجمعية، فهل تحتمل كرة القدم كل هذه المواقف السياسية والأخلاقية التي نحملها لها؟

فرح كثر منا للمنتخب المغربي بالوصول إلى الربع النهائي، وسواء أكان هذا إنجازا عربيا أما مسلما أم أفريقيا أم أمازيغيا أم ليس إنجازا مهما أصلا، فإنه من الجميل أن تفرح لفرح شعب تتشارك معه ظروفا تاريخية وآنية متشابهة، ويجمعك معه وعاء لغوي يشكل وعيكما القديم والحديث.

لن تمنح المغرب موافقة دخول للسوريين كشكر على تشجيعهم لها، ولن تفعلها دولة عربية أخرى حاليا، وقد ننبذ في مطارات هذه الدول كما يُنبذ المتسولون والمتشردون، لكن هل يتحمل شعب المغرب أو أي شعب آخر مسؤولية هذا التعسف في التعامل معنا؟ ألسنا هكذا نعود إلى الدائرة التي سعينا للخروج منها في ٢٠١١: اعتبار الأوطان هي أنظمتها واعتبار الأنظمة هي الشعوب.

المصدر: تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا