عن جثة ثورتنا التي تعفنت في العراء

جسر – صحافة

بخلاف السنوات الماضية، لم ينشغل السوريون “خاصة من سكان وسائل التواصل الاجتماعي” باقتراب ذكرى انطلاق الثورة، ولم يعمدوا مثلاً إلى اجترار خلافاتهم حول توقيت ومكان انطلاقها؛ دمشق 15 آذار أم درعا 18 آذار؟ لم يخترعوا من أجل الذكرى خلافاً افتراضياً جديداً، خلافاً ينتهي مع حصيلته من اللايكات أو غيرها من التفاعلات في انتظار موسم آخر. كأن ذكرى الثورة السورية هذه السنة اكتفت بالحدث الأوكراني، بوصف أوكرانيا ضحية توأماً، لعل بقايا الأمل الأوكراني تنهض قليلاً باليأس السوري.

خلال عشر سنوات، أي بعد انقضاء السنة الأولى منذ انطلاقتها، لم تحدث تغيرات كبيرة في النظر إلى الثورة أو الموقف منها. عند ذلك التاريخ تقريباً، ظهر كأن البعض يستعجل إعلان موت الثورة، بذريعة العسكرة أو الطائفية أو كليهما، بينما كانت النسبة الساحقة تميل إلى اعتبار الثورة مستمرة، وبما قد تنطوي عليه من أخطاء، فلا ثورة نقية في التاريخ.

ضمن ذلك المناخ ستبرز أقوال مثل ذاك المنسوب إلى الراحل صادق جلال العظم: “الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو تَعَلْمَنَتْ، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها… سيصيبه الرعب منها”. وهو قول يحتمل كونه رد فعل فيه غاضب إزاء من يخدمون الأسد مواربة بالتهجم على الثورة من دون إظهار ولائهم، ويحتمل توصيف الثورة كحدث تاريخي، بما في ذلك أنها شر لا بد منه. إلا أن الشق الأول، وما يماثله عند آخرين، كان الأكثر رواجاً لما فيه من تبرير يحتاجه البعض، ولما يحمل معناه المباشر من تبسيط يرتاح إليه بعض العقول.

لا بأس بأن يُضاف إلى ما سبق أن الثورة مِلكٌ مشاعٌ، فلا يحق لأحد “نظرياً” وضع شروط عليها أو على ناسها، ولا يحق له إعلان وفاتها عندما لا تروق له. غير أن هذا الكلام الصحيح شكلاً لا يصعب “ولم يصعب حقاً” استخدامه على نحو مرسل، وبحيث تحتمل الثورة أي شطط يقترحه من ينسب نفسه إليها، ليصل الشطط إلى حدٍّ تفترق فيه الثورة نهائياً عما كانت عليه بدايةً. فما هو متفق عليه أن الثورة انطلقت بمطلب الحرية ويُفهم أن الديموقراطية شرطها اللازم، وهذا لم يمنع فصائل أو تنظيمات من رفع العلم الذي صار رمزاً للثورة رغم عدائها المعلن للديموقراطية والحرية، ولا يقلّ سوءاً أولئك الذين يحسبون أنفسهم على الثورة “من خارج الفصائل والتنظيمات المعنية” إذ لا يرون حرجاً في إطلاق وصف ثوار على المنضوين فيها.

المثال الأخير هو واحد من نماذج فاقعة على ظواهر صارت هي المهيمنة باسم الثورة، وأكثر ما يستفيد منه أصحابها هو عدم الاتفاق على انتهاء الثورة التي أصبحت واقعياً، منذ سنوات، بمثابة جثة مرمية في العراء بما لهذا الوصف من تبعات. وعدم الاتفاق هذا له جانبان، أحدهما سياسي والآخر معرفي. الأول لا يخلو لدى البعض من رد الفعل أو النكاية تجاه الذين عادوها منذ انطلاقتها، أو لا يخلو من البعد الرمزي الذي يرى أصحابه في إعلان النهاية هزيمةً لا قيام بعدها.

ما يهمنا في الجانب المعرفي أن إنكار نهاية الثورة، بالقياس إليها كمرجعية، أهدر فرصاً ثمينة للتعرف على أحوالنا، وفي ذلك استئناف لإنكار أخطاء الثورة أو الدفاع عنها لجهة تفويت فرص معرفة أفضل. لقد رأينا مثلاً استمرار الجدل بين رافضي ومؤيدي الخيار العسكري، بينما كانت العسكرة تتقدم من دون نقد عام يطال طبيعتها وخياراتها التكتيكية، وما هو مقبول منها وما هو ضار أو مدمِّر. تقدّمت العسكرة من دون اتفاق عام في الآراء على أنها حقبة جديدة، ثم سرعان ما ستتخذ طابع الحرب فلا تعود عسكرة للثورة بالمعنى الذي بدأت به، وهنا أُهدرت فرصة الحديث عن الحرب بأدواتها لا بأدوات تجاوزتها الوقائع الميدانية. تالياً، أُهدرت فرصة الحديث عنها باصطفافاتها المختلفة عن الانحياز أو عدم الانحياز إلى قيم الثورة، مع أن هذا التمييز كان سيحل الفصامات الفكرية الآتية من احتساب بعض الفصائل التي تحارب الأسد على الثورة، ثم لاحقاً احتساب المرتزقة عليها.

ولا يندر أن يذكّر تعبير المرتزقة بالارتهان المشين الذي انحدر إليه الإطار الذي ينال أوسع اعتراف حتى الآن تحت مسمى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وكما هو معلوم أنشئ هذا الكائن أصلاً برغبة دولية وإقليمية. ما يهمنا في هذا السياق إيحاء الاسم الذي يحيل زوراً إلى “قوى الثورة”، إذ من المعلوم أن قوى الثورة انتهت بنهاية الثورة نفسها منذ سنوات. على هذا المستوى أيضاً يبرز استغلال جثة الثورة من قبل أشخاص وكيانات لا يمثّلون السوريين، ولا يمثّلون قيم الثورة، وكان للاتفاق على دفن الجثة بدل تركها في العراء أن يصونها منهم.

الأمثلة صارت أكثر من أن تُحصى في عجالة على أن الإصرار على استمرار الثورة بات بمثابة إعاقة سياسية وفكرية معاً، ومن ذلك عدم بناء قضية سورية مطابقة لوقوع البلد تحت مختلف أنواع الاحتلالات، ولتهجير ما لا يقل عن نصف السوريين بين الداخل والخارج. بحكم الأمر الواقع، فقد السوريون فعاليتهم السياسية التي كانو

ا على وشك استردادها بالثورة، ولا نجاح يُسجّل للأخيرة “رغم البؤس الحالي” ما لم تتمسك كتلة فاعلة منهم بحقها في السياسة لتقترح آليات تفكير وعمل جديدة وناجية من جعل آذار 2011 قفصاً مغلقاً على العقل. من المحتمل أن يكون هناك بعض الفائدة أيضاً إذا غادرت عقول الشريحة البائسة من الموالين القفص نفسه.

دفنُ تلك الجثة، والاتفاق على نهاية الثورة ولو أنه متأخر جداً، ليس مشروعاً شخصياً ولا ثقافياً بالمعنى الضيق، بل هو لا يأخذ صفة المشروع إلا من اتفاق تتسع دائرته بين السوريين على انقضاء مرحلة. لعل هذا يكون مفيداً أولاً لإعادة التفكير في الأطوار التالية على انطلاق الثورة، حيث لا يكفي أو لا يصلح الانقسام الأول حول الثورة لفهم تلك الأطوار. لن ينتهي الحدث السوري “بالمعنى التاريخي” بدفن ما أسّس له، بل على العكس ستفتح الجنازة على مواجهة الأسئلة الشاقة عما بعدها. لمن تستهويه الكلمة ويعزّ عليه التخلي عنها؛ مواجهة الأسئلة الصعبة هي ثورة أيضاً.

المصدر: موقع المدن

قد يعجبك ايضا