عن شخصيات صنعت تاريخ سوريا.. ورحلت في 2022

عبد الناصر العايد

وُصف العام الحالي 2022، بانه عام رحيل عدد من اكثر الشخصيات العالمية تأثيراً في الحقبة المنصرمة، على رأس هؤلاء الملكة اليزابيث الثانية، التي جلست على عرش واحدة من اهم دول العالم لسبعين سنة خلت، وميخائيل غورباتشوف، الرئيس الذي انتهى على يديه الاتحاد السوفياتي وحطت الحرب الباردة اوزارها، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت، منظرة التدخل العسكري الأميركي الخارجي، والرئيس الصيني السابق جيانغ زيمين، وعدد آخر من زعماء العالم الذين توفوا عن اعمار طويلة قاربت المئة.

وإلى جانب هؤلاء ثمّة من قتل أيضاً هذا العام، مثل زعيم تنظيم القاعدة ايمن الظواهري، الذي قتل بغارة أميركية في أفغانستان، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي.

وفي سوريا، أبرز مسارح الموت على كوكبنا منذ عشر سنوات، حفل العام أيضاً برحيل شخصيات لعبت أدواراً بارزة في الحياة العامة السورية، مات معظمهم موتاً طبيعياً وبعد عمر مديد، واختطف الموت بطبيعة الحال آلافاً من المقتولين بطرق عدة، ممن لم تسعفهم آجالهم ليتركوا بصمتهم في هذه الحياة.

تفرق الموتى السوريون المؤثرين هذا العام على حيزات اجتماعية وثقافية وسياسية ومهنية متعددة، وسنتطرق إلى حالات منهم دون النظر إلى التقسيمات السياسية الأكثر رواجاً، أي بين موالاة ومعارضة، إذ قد يكون لتوزع هذه الشخصيات وفق مجالات نشاطها دلالات أوسع من المواقف السياسية.

أتجرأ فأقول إن أبرز الراحلين السوريين في السنة الماضية هن امرأتين، الأولى هي منيرة القبيسي المولودة في دمشق سنة 1933، والمتخرجة أولا من قسم العلوم الطبيعية في جامعة دمشق، قبل أن تتجه إلى تعلم وتعليم العلوم الشرعية ابتداء من ستينيات القرن الماضي، لتكّون عبر جهد تراكمي طويل منظمة دينية غير رسمية هي “القبيسيات” التي اخترقت المجتمعات السنيّة المحافظة في مراكز المدن السورية خاصة دمشق وحمص، وليمتد تأثيرها بعد ذلك إلى معظم المناطق الحضرية في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين ودول الخليج العربي، تحت مسميات مختلفة، والتنظيم ذو جذور صوفية، ويركز على النساء في الطبقات الثرية.

وعلى الرغم من انحياز التنظيم في مرحلة الثورة السورية لنظام الأسد ووقوفه اجتماعيا على الأقل معه، إلا ان هذا لم يحل دون تعزية رجال دين وسياسة معارضين من مدينة دمشق بها لدى وفاتها، الامر الذي يعكس لا فقط خطورة هذه الشخصية، بل وقوة حضور تنظيمها حتى بعد وفاتها، وتحسّب هؤلاء له وضرورة ابداء الاحترام لمؤسسته وزعيمته.

الشخصية التالية في الأهمية من وجهة نظري هي منتهي الأطرش، المولودة سنة 1938، ابنة الزعيم البارز سلطان الأطرش، الذي فرض حضوره الوطني العام رغم تحدره من الأقلية الدرزية، وهو النهج الذي مثلته منتهى ايضاً، سواء في عملها الثقافي أو الحقوقي، وشكل موقفها من الثورة السورية وحضورها لمآتم وتشييع شهداء الثورة في بعض مناطق ريف دمشق علامات مضيئة في تاريخها الشخصي وملهمة على الصعيد السوري العام، ورغم انكفائها لاحقاً إلى أن معارضتها للنظام وتأييدها للثائرين عليه لم تخفتا، وبقيت على موقفها حتى رحيلها. وكان من الممكن لمنتهى أن تلعب أدواراً أكبر بكثير في الحياة العامة السورية لو أن الحراك الثوري السوري انتصر.

أما عن الراحلين الرجال، فلعل أبرزهم الكاتب الروائي خيري الذهبي، المولود في دمشق سنة 1946، والذي أثر بجيل كامل من المثقفين السوريين، وكان صاحب موقف ناقد ومعارض للنظام بشكل دائم، واتخذ موقفاً واضحاً إلى جانب الثورة السورية منذ انطلاقتها. يرمز الذهبي إلى مثقفي المدن الرئيسية، خاصة دمشق، أو مثقفو الطبقة المدينية البرجوازية بالعموم، الذين سحقهم نظام الأسد وأبرز مثقفين ريفيين اقل شأناً. وقد رحل في السنة الماضية إلى جانب الذهبي عدد من المثقفين الآخرين، جلهم يقفون على ضفة الموالاة لنظام الأسد، مثل قمر الزمان علوش وبسام الملا ونبيل فياض وصفوح شغالة.

وبالحديث عن رجالات النظام الذين قضوا، يبرز اسم العميد علي حيدر، المولود سنة 1932 في ريف جبلة، مؤسس وقائد القوات الخاصة في سوريا، وأحد ألمع ضباط حافظ الأسد الذين رسخوا حكمه على قاعدة طائفية محضة، ومارست قواته أدواراً بارزة على الساحة السورية إبان تمرد الإخوان المسلمين، وخارج سوريا عندما تدخل نظام الأسد في لبنان، حيث كانت القوات الخاصة رأس حربة القتال ضد ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية.

عُزل من منصبه سنة 1994 على خلفية تطهير حافظ الأسد لنظامه من المنافسين المحتملين لتولي وريثه بشار للحكم، ولم يعرف موقفه من الثورة السورية، لكن صورة جمعته مع بشار الأسد الذي زاره في أواخر أيامه تثبت انه لم يخرج من الكنف الطائفي الذي كان من أبرز حماته طوال حياته المهنية.

حملت هذه السنة أيضاً خبر رحيل شخصية أخرى مغايرة ومختلفة جذرياً عن جميع الشخصيات السابقة، هو حميدي الجربا، شيخ مشائخ قبيلة شمر، المولود في بلدة تل علو في محافظة الحسكة سنة 1936، وحميدي ليس زعيماً قبلياً عادياً، فهو من ابرز وجوه العشائرية السياسية في سوريا، وكان على الدوام ذو تطلعات سياسية عامة، وحاول أن يلعب منذ التسعينيات أدوارا سياسية، لكنه واجه عائقاً حدّ من طموحاته، هو تمركز جسد قبيلته في العراق، بينما الرأس، الذي يمثله هو، في سوريا، ولو كان الأمر غير ذلك فلربما كان للرجل شأن استثنائي في تاريخ سوريا، على الرغم من أنه تمتع بمكانة ليست بالقليلة في كل الأحوال.

بالنظر إلى اعمار هذه العينة المختارة من المؤثرين السوريين الراحلين، نجد أنهم جميعاً من مواليد حقبتي ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي، بمعنى آخر أنهم يمثلون قرناً من تاريخ سوريا، ينطوي ويندثر باختفائهم الفيزيائي، وكما في حياة كل شعب وجماعة، فإن نخباً من أجيال أخرى تأخذ على عاتقها صناعة التاريخ، وهو أمر قد يغيب عن تفكير هذه النخب في لحظات الانهماك في العمل، حتى يأتي خبر رحيل شخصية ما، وسرد سيرته، ليذكر الواحد منهم بمسؤوليته التاريخية، وخطورة المواقف التي يتخذها ودورها في البناء التراكمي لتاريخ الجماعة، مهما وأينما كان موقعه.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا