عن فوز السوريين في الانتخابات التركية

عمر قدور

من المؤكد أن فوز أردوغان بالرئاسة قد أراح أعصاب اللاجئين السوريين في تركيا، وكذلك أعصاب السوريين في مناطق الشمال الخاضعة لنفوذ أنقرة. فملايين السوريين على طرفي الحدود كان ينتظرهم المجهول فيما لو فاز المرشح الخاسر كمال كليتشدار أوغلو، فهو كما نعلم تعهّد بإعادة اللاجئين إلى بلادهم وكأنه سيرميهم وراء الحدود كيفما كان، ويُستنتج من مجموع أقواله استعداده غير المشروط لعلاقة ودية مع الأسد. ومع تصاعد حدة المنافسة مع أردوغان، أظهر أوغلو قابلية للتخلي عن أفضل ما كان في شعاراته لقاء كسب أصوات أقصى اليمين المتطرف المحرِّض على اللاجئين، والمعادي للأكراد بالطبع.

لكن من الجيد، مع أجواء الارتياح عقب إعلان النتائج، الانتباه إلى إعلان أردوغان عن توطين مليون لاجئ سوري في مناطق سيطرته شمال سوريا. وهذا ليس بالمشروع الجديد، أما إعادة الإعلان عنه في خطاب الفوز فتخدم أكثر من هدف في وقت واحد، فهي رسالة إلى قسم من جمهوره وحلفائه تتتضمن الوفاء بوعد التخلص من مشكلة اللاجئين، وهي أيضاً رسالة تنطوي على إجراء أحادي لا يتوقف على تقدم مفاوضات التطبيع مع الأسد، ولا يصعب تأويلها في منحى عدم وجود نوايا للانسحاب من سوريا في المدى القريب أو المتوسط. ورغم أن إشارة أردوغان إلى تمويل قطري لمشروع التوطين تهدف إلى طمأنة الأتراك بأنه بلا عبء مالي عليهم، إلا أن معارضة الدوحة التطبيع مع الأسد تعطي المشروع أبعاداً سياسية.

على ذلك من المحتمل أن تنقلب الأدوار في مفاوضات أردوغان-الأسد، فمن المعلن أن الثاني كان يماطل فيها منتظراً مجيء نتائج الانتخابات التركية لغير صالح الأول، والآن يتعيّن عليه التعايش مع وجوده خمس سنوات قادمة لا يكون فيها أردوغان متلهفاً للقائه. على صعيد متصل، لن تبقى ورقة اللاجئين ضاغطة طوال الوقت في السجال التركي الداخلي، وقد تعود قليلاً إلى الواجهة لمناسبة الاتتخابات البلدية في العام المقبل ثم تتوارى، بمعنى أن أهم مبرر للتطبيع مع الأسد لن يكون له الحضور الضاغط كما كان في الشهور الأخيرة الماضية.

بتصويت غالبيتهم لأردوغان، اختار الأتراك الاستقرار، وفضّلوه على تغيير لا يستحق المخاطرة. وقد ينسحب الاستقرار على الجبهة السورية، ما لم يكن لواشنطن رأي آخر. هذا ما يقوله حال اللاعبين الكبار في الساحة؛ فموسكو يكفيها انشغالها اليومي بورطتها الأوكرانية، وطهران مرتاحة لنفوذها على الأسد ولانشغال موسكو ولا تسعى إلى المزيد، وأنقرة لا تريد تغييرات كبيرة في التقاسم الحالي، إلا إذا لوّحت واشنطن بالانسحاب من سوريا، وهذا مستبعد في المدى القريب. استقرار ساحة الصراع السورية هو ما يسند مشروع توطين بهذه الضخامة، ويصعب التكهن بآثاره المستقبلية على الخريطة السورية ككل.

ومن المفهوم أن استقرار الجبهات، ووقف أعمال العنف، مطلبٌ لنسبة عظمى من السوريين الذين لم تعد لديهم طموحات تتعدى وقف استباحة دمائهم. لكن من الخطأ الركون إلى الاستقرار بوصفه مستداماً، وبصرف النظر عن المواقف الشخصية أو التنظيمية فإن تركيا هي الجار الأكبر، وأي تغيير ملحوظ في السياسات الخارجية التركية سيترك آثاره على الشأن السوري. ورغم فوز أردوغان بفارق خمس نقاط عن منافسه، وهو فارق جيد في اللعبة الديموقراطية، إلا أن نسبة الاقتراع الكبيرة جداً وتوزُّع الأصوات أشارا إلى رغبة الناخبين في التغيير، وقد يكون من أهم نواقص أوغلو عدم تلبيته حقاً التطلّع إلى التغيير.

في الواقع قد لا يتأخر استحقاق التغيير في الظهور، ففي جهة الخاسرين لا يسمح سنّ أوغلو بتجديد شبابه السياسي، وهو أخذ فرصته كاملة، ومن شبه المحتّم أن يُنحّى عن صدارة الحزب المعارض الأكبر، ربما لصالح أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول الحالي برمزيته كفائز في الانتخابات البلدية على مرشح حزب العدالة؛ جدير بالذكر أن أردوغان نفسه استهل مشوار زعامته برئاسة بلدية إسطنبول. أما في جهة حزب العدالة، فمن المتوقع أيضاً الشروع في تدبير مرحلة ما بعد أردوغان، ربما يكون ذلك بعد الانتخابات البلدية، وتحضير خلافة أردوغان لا بد أن يلحظ أمرين؛ افتقاد الكاريزما الشخصية الخاصة به ورغبة الناخبين في رؤية تغيير ملحوظ.

لن يكون لخليفة أردوغان الإرث نفسه مع الشأن السوري، ومن ذلك موضوع استضافة اللاجئين الذي استُخدم ضده في المواسم الانتخابية الماضية، ويصعب معرفة ما سيكون عليه موقف الزعيم الجديد لحزب العدالة، حتى إذا كان مدعوماً ومختاراً من قبَل سلفه. لكن، مهما كان القائد الجديد، سيتعين على المعارضة السورية المقيمة في تركيا التعاملَ مع التغييرات، وقد تكون هذه عمليةً شاقة لا بسبب التغيير في حزب العدالة الحاكم فقط، وإنما بسبب اعتياد المعارضة على نمط من القيادة التركية يعفيها من المبادرة، وحتى من التفكير.

نفترض في كل الأحوال ألا يقع حزب العدالة في مطب التوريث على صعيدي الشخص والنهج، لأن أي خلف سيكون أصلاً أمام تحدي إثبات استقلاليته وجدارته بعد نجاح سلفه في الهيمنة على الحياة السياسية التركية لعقدين. ونفترض تالياً أن على المعارضة السورية استيعاب أن أردوغان غير باقٍ إلى الأبد، بخلاف علاقة الجوار بين البلدين وتبعاتها. لقد فاز اللاجئون والمعارضة في الانتخابات التركية بالنجاة من تغيير دراماتيكي غير مستعدين له، ما يمنح فرصة زمنية لاستباق التغييرات المقبلة، ولمحاولة تخفيف أضرار ما قد يكون سلبياً منها.

لا يقتصر ذلك على المعارضين الواقعين تحت نفوذ أنقرة، فحتى الذين يعتبرون تركيا عدواً لهم “بصرف النظر عمّن يحكمها” مضطرون إلى التعامل مع حقائق الجغرافيا، ومع حقيقة أن التغيير في تركيا ضمن العملية الديموقراطية تقرره غالبية الأتراك لا أمنيات الأصدقاء أو الأعداء في الجوار. أما التفاعل مع الحياة السياسية التركية فيتطلب ديناميكية ومبادرة، فلا يقتصر على ردود الأفعال؛ إيجابية كانت أم سلبية. لقد حضر السوريون في الانتخابات الأخيرة كمشكلة “لاجئين عرب” و”إرهابيين كرد”، مع ما لذلك من أثمان مدفوعة أو كان من المرتقب دفعها. تغيير هذه الصورة النمطية لن يكون سهلاً من الآن حتى الانتخابات المقبلة، أما ترسيخها فمضمون باستسلام السوريين لها.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا