فورين بوليسي: الحرب على مستقبل سوريا والعراق ستدار عبر الهواتف

ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع

عندما كان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في طريقه إلى واشنطن منتصف شهر آب/أغسطس الماضي لمناقشة استمرار الدور الأميركي في العراق، قامت ثلة من الهواتف الذكية بزيارة عكسية نحو الجنود الأميركيين في العراق، بعدما تلقت أوامر من الكولونيل ميليس كاجينز الذي كان حينها الناطق الرسمي باسم قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة، وهنا يحدثنا فيقول: “إنني على يقين تام بأن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها توزيع هواتف آيفون 11 بروماكس على الجنود العاملين في الشأن العام، وهذا بحد ذاته تطور وإنجاز كبير”، إذ ترمز هذه الهواتف إلى تحد أكبر تواجهه قوات التحالف الدولي لاسيما الأميركية منها، ويتمثل بمحاربة المعلومات المفبركة التي تنتشر في العراق وسوريا، إلى جانب قيامهم بشرح أبعاد مهمة التحالف هناك.

ولهذا يجب على الولايات المتحدة أن تواجه الحرب الإعلامية المعقدة التي تشنها المجموعات الموالية لإيران، وكذلك من قبل نظام الأسد وموسكو والهدف منها زعزعة الثقة بمهمة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. إذ خلال الأشهر الستة الماضية، زاد عدد الهجمات الصاروخية والهجمات بالعبوات الناسفة التي استهدفت القوات الأميركية في العراق، حيث نفذت تلك الهجمات مجموعات تفخر بإخراج الأميركيين من البلاد، وقد نشرت مقاطع فيديو صورت تلك الهجمات على الشبكة لترسل رسالة واضحة إلى واشنطن. فالمجموعات الموالية لإيران مثل كتائب حزب الله وحركة النجباء تقوم وبشكل دوري بنشر رسائل تتهم من خلالها الولايات المتحدة بتحويل سفارتها إلى قاعدة عسكرية وذلك لتبرير القيام بالمزيد من الهجمات. أما الإعلام الإيراني فينشر وبشكل يومي مزاعم تتهم الولايات المتحدة بالظلم والجور، ومن ذلك قيامها بنهب نفط سوريا.

وفي سوريا تقوم القوات البرية الروسية بمضايقة الدوريات الأميركية، إذ يسعى المسؤولون الروس مع الإعلام الروسي إلى تصوير تلك المواجهات على أنها خطأ ارتكبته أميركا، وهذه السلسلة من المواجهات العسكرية في العراق وسوريا مع الرسائل التي تتضمنها على الأرض والتي تصل إلى الجمهور المحلي وإلى القادة في المنطقة، تهدف إلى تقويض الوجود العسكري الأميركي. ففي خطوة غير مسبوقة جرت في أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، أبلغت واشنطن بغداد بأنه في حال عدم توقف الهجمات التي تستهدف سفارتها وجنودها، فلا بد للولايات المتحدة أن تقوم بسحب مقر سفارتها الكبير من بغداد.

وعندما وصل كاجينز إلى العراق في شهر آب/أغسطس من العام 2019، كان ضباط الشأن العام ضمن التحالف في بغداد قد أجروا بعض الاتصالات مع نظرائهم في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبالرغم من مرور أربع سنوات على التعاون بينهما، فإن حساب التحالف على تويتر لم يقم حتى بمتابعة حساب مصطفى بالي الناطق الرسمي باسم قسد في شمال سوريا، بل كان كاجينز أول ناطق رسمي يغرد بالكردية ويصل إلى نظرائه في سوريا ليقوم بتنسيق الرسائل بين الطرفين.

إذ يؤكد استخدام التحالف للتغريدات لإرسال رسائل لمناوئيه وشركائه على الأرض مدى تأثر الحروب بوسائل التواصل الاجتماعي اليوم. فعندما كان كاجينز يشغل منصب المتحدث باسم التحالف وصف هذا الرجل الشائعات حول الهجوم على أرتال عسكرية أميركية بالكاذبة كما أبدى تضامنه مع العشائر في وادي الفرات حيث تعرضت لمجازر على يد تنظيم الدولة الإسلامية، فالعشائر تلعب دوراً أساسياً في تعزيز الأمن لصالح دور التحالف في حماية حقول النفط اليوم. ثم إن إسكات الأخبار الملفقة الموالية لإيران يعتبر أمراً جوهرياً بالنسبة لإحباط أي تصعيد للأمور.

وخلال السنة التي أمضاها هذا الرجل كناطق رسمي باسم التحالف، لعب دوراً أساسياً في ريادة التقانة الحديثة، حيث أخذ ينشر تغريدات بالكردية، ويعمل على تعزيز وتمتين العلاقات المحلية، ودفع نحو مزيد من الاستخدام الاستباقي لوسائل التواصل الاجتماعي، ثم ترك كاجينز منصبه في الشهر الماضي، إلا أن رؤيته استطاعت أن تغير الطريقة التي ستحارب فيها الولايات المتحدة مستقبلاً كما أوضحت الصراع الذي واجهته واشنطن في تلك اللحظة الجوهرية ببغداد.

يذكر أن كاجينز هو مواطن أسود وصل إلى مناصب رفيعة وخدم في منصب عام فريد من نوعه في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تخوض مواجهات عميقة مع العنصرية في الداخل، إذ أخبرني هذا الرجل أن لون بشرته السوداء ساعده في تشكيل علاقات مع السكان المحليين في مناطق منها العراق، حيث يقول: “والدي كان كولونيلاً متقاعداً، وفي عام 1964، بعد تخرجه من توسكيجي، كان الرقباء البيض يعبرون الشارع في فورت بينينغ دون أن يلقوا عليه التحية. وبعد مرور خمسين عاما على ذلك، أصبحت أمثل كل تلك الدول وعشت الحلم الذي تمناه أجدادي وأسلافي”.

إذ عندما بدأت مظاهرات جورج فلويد في الولايات المتحدة، ذكر هذا الرجل بأن الكثير من الكرد أرسلوا له رسائل عبروا له من خلالها عن تضامنهم لأنهم سبق أن واجهوا مثل هذا التمييز على مر التاريخ في العراق وسوريا، ويعقب على ذلك بالقول: “تلك الصلة التي أتت عبر لون بشرتي وتفهمي لوضع هؤلاء الذين نبذوا وتركوا وهمشوا واضطهدوا…. كنت أتحدث إلى ملا طلال الناطق الرسمي باسم رئاسة الوزراء في العراق فقال لي: “أيها كولونيل، إنك تبدو واحداً منا”، ما يعني أني حظيت بهذا النوع من المحادثات التي لم يحظ بها أي ممن سبقني إلى هذا المنصب”.

فقد وصل كاجينز إلى العراق في السنة الماضية ليترأس ضباط الشؤون العامة في التحالف، وهو محارب قديم حارب خلال السنين الأولى للحرب الأميركية في العراق، فقد خدم في محافظة ديالى في عام 2003، ثم نقل إلى الشؤون العامة في القطاع العسكري في عام 2006، وبعدها أصبح ضابط شؤون عامة للفرقة المدرعة الأولى جنوب العراق ما بين عامي 2009-2010.

بيد أن الأزمات المزدوجة التي تمثلت بالعملية العسكرية التركية التي تمت في سوريا والتوتر الذي قام بين الولايات المتحدة وإيران في العراق يشير إلى أن مواصلة دور الولايات المتحدة في ترؤسها للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة أصبح موضع شك. فقد كانت زيارة كاظمي لواشنطن في شهر آب/أغسطس الماضي جزءاً من الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وذكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ذلك الاجتماع بأنه تم تخفيض تعداد الجيش الأميركي في العراق ليصل إلى “عدد قليل جداً من الجنود”.

ويحتشد هؤلاء الجنود اليوم ضمن عدد من القواعد بعدما قام التحالف بتسليم أكثر من ست قواعد ونقاط عسكرية له للقوات العراقية في عام 2020، حيث يتعرض هؤلاء لهجمات صاروخية بشكل أسبوعي تشنها ضدهم ميليشيات موالية لإيران، وقد أشار ترامب أيضاً في خطاب له بتاريخ 20 آب/أغسطس إلى أن الولايات المتحدة أنجزت انسحابها من المناطق الحدودية في سوريا، وبأنها ستتخذ قراراً بشأن بقائها ومواصلتها تأمين النفط في شمال شرقي سوريا وذلك خلال فترة قريبة للغاية. كما أعادت القيادة الوسطى الأميركية مؤخراً مدرعات برادلي إلى سوريا لتعزيز الوجود الأميركي هناك، في الوقت الذي تقوم فيه إدارة ترامب بالتفكير بالخطوة المقبلة.

وطيلة هذه الفترة الخطرة المتقلقلة بالنسبة للقوات الأميركية تعاظم دور ضباط الشؤون العامة بينهم، فبعدما حبست القوات الأميركية ضمن قواعدها ولم تعد تخرج منها للقيام بدوريات مع نظرائها، ومع تفشي جائحة كوفيد-19، تسبب كل ذلك بالمزيد من العزلة والابتعاد عن القوات الشريكة، وأصبح معظم النزاع يركز اليوم على خط الجبهة ضمن الحرب الإعلامية.

فهذا الجانب من الجهود الأميركية في العراق وسوريا تعرض لتجاهل كبير منذ أمد بعيد كما اعتبر بأنه مجرد تحصيل حاصل، إذ خلال الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، كانت الحاجة للحصول على المعلومات أو الرد على التساؤلات بخصوص وفيات المدنيين مثلاً تعني العمل على إدارة نقاط للحديث وتقديم الردود المناسبة حول ساحة المعركة. ولكن مع ازدياد دور روسيا والنظام في شرق سوريا، حيث تتعرض الدوريات الأميركية في أغلب الأحيان لاعتراض القوات الروسية، إلى جانب الحاجة للرد على الفيديوهات التي تتصل بالدعايات والبروباغاندا في العراق والتي تنشرها القوات الموالية لإيران، كل ذلك أضاف أبعاداً جديدة لهذا النزاع.

ففي شهر شباط/ فبراير من هذا العام، كانت دورية أميركية تمر بقرية قريبة من القامشلي فاعترضتها مجموعة تضم مسلحين بلباس مدني، وبعدما أطلقوا النار على الأميركيين، أطلق الجنود الأميركيون النار عليهم، ما أدى إلى مقتل سوري، فاستغل النظام تلك الحادثة لتصوير الجنود الأميركيين على أنهم محتلون يطلقون النار على المدنيين، مع أن الحقيقة هي أن الروس هم من ساعدوه على الأغلب في التحريض لما وقع خلال تلك الحادثة.

إذن تتلخص معضلة القوات الأميركية في حاجتها إلى معلومات استخبارية متطورة حول القرى التي تدعم النظام ، وتلك التي تبدي تعاطفاً أكبر تجاه الولايات المتحدة، وهذا يعني وجود تواصل واحتكاك مستمر على الأرض، ويعني أيضاً السماح للجنود بالحصول على التقانة التي تمكنهم من مواجهة الدعايات والبروباغاندا التي تروج لها دمشق وموسكو؛ فمثلاً، يبدو أن الروس هم الأسرع في نشر مقاطع فيديو حول تلك الأحداث على الإنترنت، وهنا يتعين على الناطق الرسمي باسم القوات الأميركية أن يدحض على الدوام الروايات التي تنتشر في سوريا والعراق حول قيام الولايات المتحدة بنشر صواريخ باتريوت أو حتى إحراق محاصيل الشعب.

وعندما اتصلت بكاجينز في العراق في مطلع شهر آب/أغسطس، تبين لي بأن هذا الرجل لديه مفهوم مختلف حول طريقة القتال في الفضاء الإعلامي، ففي البداية قام بصياغة رسالة لم تكن رسمية للغاية بل حملت طابعاً شخصياً، حيث احتفت بالانتصارات التي حققها التحالف، مثل قصف المواقع التي اختبأ فيها مقاتلو تنظيم الدولة، مع إضفاء الطابع الإنساني على ذلك التحالف. وفي الخامس عشر من آب/أغسطس، قدم نائباً له وهو الرائد غابي ثومبسون، عبر تغريدة نشرها بالإنكليزية والعربية والكردية. وخصص بعد ذلك وقتاً لعدد من الفرق الإخبارية المحلية، وتحدث بشكل مباشر إلى الأهالي بلغتهم ولم يكتف بالرد على أسئلة الإعلام الغربي. وخلال السنة الماضية، قام هذا الرجل بتحسين صلات التحالف مع الأهالي، والرد وبشكل سريع وشخصي دون وجود السلسلة المتعارف عليها للبيروقراطية أو دون الحاجة للانتظار ساعات طويلة بشكل يربك كل من يحاول الحصول على جواب من قبل وزارة الدفاع الأميركية.

ما يعني أن دور الناطقين باسم الحكومة والجيش قد تغير من مجرد الرد على الأخبار إلى إطلاق الأخبار ونشرها وتوجيهها، ولقد استثمرت الصين وغيرها من الدول وعلى رأسها إيران الكثير من الموارد في هذا المجال، حيث عمدت إلى تعيين كبار الدبلوماسيين في تلك المناصب فتحولوا إلى شخصيات مهمة في الخارج، وذلك عبر الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل المستخدمة لإرسال الرسائل. ويعتبر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مثالاً على هذا النوع من الدبلوماسيين الذين حققوا شهرة نجوم الطرب والغناء، فهو يستعين بتويتر لمجابهة الحكومة الأميركية بشكل فعال وقوي.

وبالطريقة ذاتها، تتعامل إسرائيل مع الشؤون العامة بالجدية ذاتها، لدرجة أنها أقامت وزارة كاملة للشؤون الاستراتيجية والدبلوماسية العامة، وبذلك أصبح للناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي الذي يتحدث بالعربية، واسمه أفيخاي أدرعي، مليون ونصف مليون متابع على فيسبوك و377 ألف متابع على تويتر، ويعتبر هذا الرجل جزءاً من الآلة الإعلامية المختصة بالشأن العام في إسرائيل التي تعلمت من النزاعات التي نشبت في الماضي في غزة بأن نشر المعلومات أولاً وبسرعة يعتبر جزءاً أساسياً من كسب النزاع والفوز فيه. فلقد تعلمت إسرائيل من تلك الأحداث وعلى رأسها مقتل محمد الدرة في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بأن عليها أن ترد بسرعة بخصوص تلك الأحداث، حتى لو كانت إسرائيل على خطأ، وذلك لتصوغ ما جرى بنفسها.

وتاريخياً، كان الجيش الأميركي على دراية وعلم بأهمية إرسال الرسائل والرد على العامة ومدى تأثير ذلك على العمليات التي يقوم بها. ثم إن دور عملية إدارة منح إذن الدخول للصحفيين قد تغير بشكل كبير منذ حرب فيتنام، حيث كان يتعين على الصحفيين أن تقلهم المروحيات، مروراً بحرب الخليج، وصولاً إلى الحرب على تنظيم الدولة، حيث غير البنتاغون من سياساته التي تتصل بمنح الإذن للصحفيين وانتدابهم. بيد أن الفضائح التي انتشرت وعلى رأسها فضيحة أبو غريب والجدل الذي قام مثلاً حول استقالة قائد الجيش الأميركي في أفغانستان الجنرال ستانلي ماك كريستال أثر في تغيير مجرى الحروب، وهذا ما جعل الجيش الأميركي أكثر حرصاً وحذراً بمرور السنين.

وهنا يخبرنا كاجينز بأن الدورة التي تلقاها في كلية كيندي بجامعة هارفارد قد فتحت عينيه على ضرورة أن يتحول إلى شخص محبوب وموضع ثقة يمكن للجميع أن يصدقه، إلا أن ما اكتشفه هو تلك النزعة التي تظهر في البيانات التي يجب أن تتم “استشارة محامين حولها، كما يجب أن تصاغ باللغة الإنكليزية الاصطلاحية التي تستخدمها ملكة بريطانيا، تلك اللغة التي تبدو مزعزعة ومتقلقلة، وهذا لا يشبه الرسائل التي يتلقاها الناس في الحياة عموماً بشيء”، وهذا يعني ضرورة استخدام مزيد من المصطلحات البسيطة، وزيادة الصور ومقاطع الفيديو، مع التعرف إلى أكثر منصات التواصل الاجتماعي شيوعاً ورواجاً اليوم، إلى جانب التقليل من نقاط الحديث الكثيرة. فهو يرى بأن إظهار الوجه الإنساني للتحالف أمر مهم، ومع انتشار أزمة فيروس كورونا لم يعد بوسع معظم العراقيين والسوريين أن يرَوا الجنودَ التابعين للتحالف، وهذا على الأقل يدفعهم للبحث والتقصي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي عالم تسوده الروايات التي تحرض عليها وتنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، غرد كاجينز بنفسه أمام قرابة 100 ألف متابع لحساب عملية العزم الصلب التابع للتحالف على تويتر. وفي مطلع شهر آب/أغسطس، نشر صورة لجنود إسبان وهم يلعبون كرة القدم، حيث ذكر بأن: “الرسالة الضمنية لتلك الصورة تتمثل في أن التحالف لا يضم فقط القوات الأميركية التي تحمل الرشاشات، بل هنالك الكثير من الدول المشاركة، ورسالتها هي أن الجنود ليسوا كلهم لعبة ودروعاً تقوم بمهاجمة إرهابيي تنظيم الدولة، بل إنهم يسترخون أيضاً”، ولهذا اختار صورة لجنود إسبان، تضم امرأة مجندة ضمن تلك الوحدة، وذلك لاستعراض التنوع ضمن قوات التحالف، وهذا ما أكده كاجينز بقوله: “إن عملية نشر الجنود لا تدور كلها حول الهجمات الصاروخية وبالعبوات الناسفة، بل هنالك الكثير من الحياة داخل هذا المعسكر، بالرغم من إنقاص عدد الجنود على مدار الأشهر الستة الماضية”.

إن الجلوس في مكتب ضمن قاعدة Union III بالقرب من السفارة الأميركية في بغداد لا يعتبر الطريقة المثلى للقيام بمهام الشؤون العامة، بل إن ذلك كان من بين الأسباب التي دفعت كاجينز لطلب تزويد الجنود بهواتف. ففي عام 2020، أصبح لكل جندي هاتف ذكي، وذلك لأن خصوم الولايات المتحدة في العراق وسوريا يستخدمون الهواتف الذكية بشكل متزايد وفي كل الأوقات لتسجيل ما يجري من أحداث. والرد على تلك الأحداث يتطلب نشر المعلومات أولاً، والقدرة على تسجيل الجانب الذي يدافع عنه المرء في أي قصة. والغريب أنه بالرغم من كل الجهود الأميركية التي بذلت في العراق طيلة سنوات لم تكن تلك الفكرة جلية وواضحة، إذ يبدو أن الخوف على أمن العمليات والميزانية والاستخدام الخاطئ للصور التي قد تنشر منع البنتاغون من الموافقة على توزيع هواتف ذكية على ضباط الشؤون العامة.

وتوضح حادثة جرت في العام المنصرم كل تلك المخاوف والتحديات، فقد تم إرسال قوات عراقية يترأسها الجنرال عبد الوهاب الساعدي وهي فرقة تضم قوات النخبة في مكافحة الإرهاب لتقوم بمراقبة جزيرة في شمال العراق حيث كان يعتقد بأن عناصر الدولة الإسلامية قد اختبؤوا فيها. إذ تقع جزيرة قنص في نهر دجلة، واشتهرت بأنها تحولت إلى نقطة ساخنة بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، فقرر التحالف أن يقوم بقصف مكثف عليها بوساطة طائرات إف-35 وإف-15 المقاتلة وذلك في استعراض استثنائي للقوة النارية.

وقد تم ذلك في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2019، عشية ذكرى أحداث 11 سبتمبر، وهناك راقب كاجينز الفيديوهات التي نشرت حول الهجوم والتي صورتها طائرات استطلاع وبعدها رغب بنشرها على تويتر، إلا أن مقاطع الفيديو المصورة بطائرات استطلاع أصبحت وصمة عار ووجهت إليها انتقادات لأنها حولت الحرب إلى مجرد لعبة فيديو. لذا، وبدلاً من نشر تلك المقاطع على تويتر، حصل هذا الرجل على مقطع فيديو صورته فرقة مكافحة الإرهاب العراقية من الميدان، حيث بدت التفجيرات الكثيرة التي حملت معها شيئاً من الفخر والاعتزاز بالنسبة لقوات التحالف التي تباهت بإمكانياتها. وعندما شكك ضابط شؤون عامة أقل رتبة من كاجينز بالقرار الذي اتخذه هذا الرجل في هذا السياق، رد عليه الأخير بالقول: ” أريد أن يعرف الناس ماذا نفعل”، وبالنتيجة انتشر مقطع الفيديو على وسائل التواصل انتشار النار في الهشيم.

انتهت مهمة كاجينز الذي غادر العراق في أواسط أيلول/سبتمبر بعدما انتدب إلى هناك لمدة سنة ليشغل منصب الناطق الرسمي باسم قوات التحالف، وانتقل حالياً للعمل في تكساس، حيث سيحصل على منصب جديد في فورت هوود. وفي التاسع عشر من أيلول، كتب رسالة مفادها أنه في فترة الحجر بعدما عاد، حيث قال: “أنام كثيراً دون أن أسمع صوت أي صاروخ”. وبالعودة إلى العراق، كانت الولايات المتحدة تفكر بإغلاق سفارتها في بغداد مع اشتداد القصف الصاروخي وغيره من الهجمات التي زادت من استهدافها للسفارة والمطار والقوافل التي تقوم بتقديم الدعم للمرافق الأميركية وتلك التي تعود للتحالف.

ومن المقرر أن يقوم كاجينز بإلقاء خطبة أمام جمعية الجيش الأميركي خلال هذه السنة وذلك حول ضرورة تقييم وتقدير أهمية الحرب الإعلامية العامة، إذ يرى بأنه يتعين على الحكومة الأميركية أن توافق على توزيع المزيد من الهواتف الذكية على الجنود الأميركيين، حيث يقول: “إذا كنا نأتمنهم على البنادق، فكيف لا نأتمنهم على الكاميرات وأجهزة التصوير؟!” ويصف القتال هنا بأنه: “حرب الكلمة بثمن بخس ضمن الفضاء العام” وهذا يعني تعيين: “متحدث رسمي باسم كل فرقة” بالطريقة ذاتها التي يتم من خلالها تعيين قناص ورامي رشاش ضمن فرق الجيش وقطعاته، وهذا يعني حتماً التعامل مع الفكرة القائلة بأن معظم الجنود لا يمتلكون لغة التدريب للقيام بذلك في مناطق مثل سوريا. بيد أن كاجينز يرى بأن الجندي بوسعه أن يغير عقلية: “غير مرخص لي أن أتحدث” إلى عقلية الاستعداد للإجابة عن الأسئلة الأساسية وإرسال بضع رسائل بسيطة.

وعليه فإن الدفع نحو مزيد من التقانة العصرية، كتلك المتوفرة عبر الهواتف الذكية، للرد من ميدان المعلومات ومحاولة إضفاء الطابع الإنساني على التحالف، يعتبر كل ذلك مجرد بداية. أما التحدي الثالث فيتمثل بمحاولة تطمين شركاء الولايات المتحدة على الأرض، وليس في العراق وحدها. ففي أعقاب الانسحاب الأميركي والعملية العسكرية التركية في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019، تزعزعت الثقة باحتمال بقاء الولايات المتحدة في سوريا.

وهكذا أصبحت قسد تفكر بالتعاون مع النظام في حال انسحاب القوات الأميركية بشكل كامل، ولهذا توجه كاجينز إلى شرق سوريا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وقام بالتواصل بشكل شخصي مع نظرائه في قسد، الأمر الذي حسن من فحوى الرسائل وجدد الثقة بالقوات الأميركية بحسب استطلاع أجراه التحالف. وبالرغم من غموض واشنطن حيال هدفها البعيد في البلاد، فإن الاستطلاع أظهر بأن الثقة بالتحالف زادت بعدما بلغت أدنى نسبة لها وهي 28% لترتفع إلى ما بين 65-75%، وقد علق كاجينز على هذه النتيجة بالقول: “إنهم يرون أهمية وقيمة للتحالف”.

وبما أن البيت الأبيض يميل إلى تغيير سياساته حيال سوريا دون أي إشعار مسبق، لذا من الصعب أن نعرف ماذا سيترتب على تجديد الثقة بالتحالف عبر الآثار التي ستظهر على المدى البعيد هناك. غير أن الزيارات الأخيرة لمبعوثين أميركيين فضلاً عن الزيارات التي قام بها كاجينز وفريقه إلى جانب نشر مدرعات برادلي في سوريا، يرسل رسالة واضحة تفيد بأن الولايات المتحدة لم تغلق أبوابها بعد.

موقع تلفزيون سوريا ٥ تشرين أول/اكتوبر ٢٠٢٠

قد يعجبك ايضا