كل هذا التحريض على اللاجئين السوريين في لبنان

باسل. ف. صالح

بات من غير المجدي تجاهل الاتهامات وموجات التحريض في لبنان على اللاجئين السوريين، بعد كل هذا الانهيار الذي يعيش اللبنانيون فيه، وكل المآسي التي تعصف بهم. إلا أن التشفّي باللاجئين عند كل منعطف، ومع كل محاولة لبنانية رسمية لابتزاز المجتمع الدولي، وابتزاز الجهات المانحة، سواء لتذكيرها بالدفع أو لتذكيرها بزيادة المنح والأموال المحوّلة التي تستفيد السلطة والأسواق والخزينة اللبنانية منها، ناهيك عن الفساد واختفاء كثير منها قبل وصولها إلى اللاجئين، هو بهدف استمرار الاستفادة على ظهر اللاجئين، فأمر هذه الاتهامات، وأمر هذا المنطق التحريفي برمته، أصبح عبئًا على الشعب اللبناني على مختلف المستويات، فاللبنانيون هم من عليهم مواجهة مثل هذه الحملات، لا السير في موجتها، مواجهتها ليس لأهداف إنسانية حصرًا، ولا لأهداف أخلاقيّة أو قومية أيضًا، بل لأن السير والانجرار خلفها هو آلية دائمة لمحاولات السلطة تضييع المسؤوليات والتغطية على نهبها المستمر كل أنواع المال، وإن من بوابة اللاجئين هذه المرّة.

طالعنا محافظ البقاع اللبناني بشير خضر بخطاب تحريضي على عدة دفعات، ابتداءً من يوم الجمعة 17 مارس/ آذار الماضي، خلال لقاء دعت إليه دار الفتوى اللبنانية، وحضرته الجمعيات الأهلية والمدنية في محافظة البقاع، فقد غمز المحافظ من قناة راتبه الشهري موظفا، معتبرًا أن وظيفته هي الأعلى إداريًا في الدولة اللبنانية، وذلك لا يغيّر حقيقة أن راتبه يبقى “أقلّ من الذي يحصل عليه النازح (اللاجئ) السوري في لبنان”، محاولًا، وإن بشكل غير مباشر، تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية هذه التداعيات.

وفي السياق ذاته، استكمل المحافظ خضر تحريضه على اللاجئين، حين غرّد على “تويتر” محمّلًا جزءًا من مسؤولية تسريع الانهيار إليهم، لاستفادتهم من البنى التحتية ومن المواد المدعومة من ناحية، وصولًا إلى استفادتهم من حوالي 330 مليون دولار من الكهرباء من ناحية ثانية، ناهيك عن استفادتهم من دعم سعر صرف الليرة قبل الانهيار ومع بدايته … إلخ. وهو خطابٌ ليس بالجديد على مستوى المضمون، ولا على مستوى الشكل. إذ لطالما سعت الطبقة اللبنانية الحاكمة، وحاشيتها، إلى حرف أنظار الشعب اللبناني عن أصل المشكلة، وذلك باعتماد الخطب الشعبوية والعنصرية وتكثيفهما، بغرض التهرّب من المسؤوليات التي تعصف بالبلاد، عبر رمي المسؤولية على الآخر، أي آخر، متنصّلةً بذلك من كل محاسبة، ومستمرّة في الاستفادة من كل الإمكانات المتاحة وتلك الكامنة.

أي متابع يستطيع أن يستنتج، وبشكل مباشر، أن المحافظ خضر يتناسى أن أزمة فقدان راتبه قيمته الشرائية هو نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، ونتيجة وخلاصة حتمية لسياسات النهب التي اعتمدتها السلطات اللبنانية المتعاقبة منذ أن تم تثبيت سعر الصرف في تسعينيات القرن الماضي عقب انتهاء الحرب الأهلية، ومنذ جرت استباحة الدولة وكل مفاصلها ووظائفها وماليتها العامة، ومنذ صادرت المصارف أموال المودعين، ومنذ امتنعت حكومة حسّان دياب المنقلبة على انتفاضة 17 تشرين (2019) عن دفع سندات “اليورو بوندز”. من دون أن ننسى، أيضًا، أن العمليات المنظّمة لتهريب السلع والمواد المدعومة التي كانت تذهب باتجاه الأراضي السورية، وكان يستفيد منها النظام السوري والتجار المرتبطون به في سورية ولبنان، لم يعمل أي جهاز لبناني على توقيفها أو اعتقال القائمين بها، ولم يحرّك المحافظ خضر نفسه أي ساكن لمحاربتها وهي في نطاق محافظته. ومن دون أن ننسى أيضاً سياسة السلطة اللبنانية التي لم تتوانَ عن المحاصصة الطائفية في وظائف الدولة، ومؤسّساتها، وضرب مبدأ الكفاءة، والتي كانت محاصصة منصب المحافظ بشير خضر إحداها.

والحال أيضًا أن المحافظ خضر يتناسى أن أحد الأسباب الرئيسية لوجود اللاجئين السوريين في لبنان، وأحد أسباب الانهيار الذي يطاول الدولة اللبنانية، هو، بالإضافة إلى السابق، أن حزب الله، الأقوى من الدولة، ويمارس السياسة من فوق الدولة وفوق قرارها الرسمي، ويصادر قرار الحرب والسلم، ويقاتل من أجل مصالح دولة أخرى، قرّر خوض الحروب في غير منطقة، وقرّر العبث ببعض الدول الإقليمية خدمة لإيران التي يرتهن بالسلاح والمال والمصالح لها، وقرّر إعلان حربه على الثورة السورية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من إطاحة النظام، من دون أن يتجرّأ أي أحد على مواجهة حزب الله، وهو يورّط لبنان بمشكلاتٍ لا علاقة للبنانيين بها لا من قريب ولا من بعيد.

كما لا بد من تذكير المحافظ خضر بأن كمية الأموال التي دخلت إلى لبنان من بوابة اللاجئين السوريين هي التي تؤمّن الوظائف لعدد هائل من الموظفين اللبنانيين في المنظمات غير الحكومية، كما في الجمعيات المدنية، كما تؤمن وظائف وتشغّل الأطباء والمترجمين والمستشفيات والمعلّمين والمدارس والمتاجر … إلخ، كما أنها تحرّك الاقتصاد في لبنان، بعدما تمنّعت الدول عن دعمه، لأنه لم يعد يغريها تقديم أي شيءٍ بعد عقود من الدعم والمساعدات والمنح والمشاريع التي كانت تجيّر إلى حسابات المسؤولين الخاصة.

بالإضافة إلى السابق، من الممكن أن يعود سعادة الوزير إلى عشرات التقارير عن الدولارات التي قدّمتها الدول المانحة خلال سنوات وسنوات إلى اللاجئين بهدف التعليم، والتي لم تأخذ من أمام المحافظ ومن أمام غيره شيئًا، بل لا علاقة لراتبه ولا علاقة لموازنة الدولة اللبنانية بها، فيمكنه التثبّت من تلك التي توثّق الهدر والفساد والنهب الذي طاول المنح، والذي أدّى إلى حرمان اللاجئين والحركة الاقتصادية والأساتذة والمدارس اللبنانية منها، ناهيك عن تقارير على لسان أساتذة لبنانيين يبينون أن الدولة تقاضت بدل ساعة تعليم للاجئين بالدولار في حين أنها كانت تدفع أقل من نصفها إلى الأساتذة وبالعملة اللبنانية التي تنهار.

وفي السياق، لا بد من لفت انتباه المحافظ إلى أن من يقرّر بشأن تسمية النازح أو اللاجئ هو الوضع الأمني والسياسي الذي يهيمن على بلاد اللاجئ نفسه، وليس الدولة المستضيفة، فاللاجئ بالتعريف شخصٌ “يوجد خارج دولة جنسيّته بسبب تخوف مبرّر من التعرّض للاضطهاد لأسبابٍ ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، وأصبح بسبب ذلك التخوّف يفتقر إلى القدرة على أن يستظلّ بحماية دولته، أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك”. فهل يستطيع سعادة المحافظ، ودولته، أن يحسموا في أمر نزوح السوريين وليس لجوئهم، مغفلين التقارير الدولية عن التشفي والكيدية والاضطهاد والثأر الذي تمارسه وحدات جيش النظام السوري بحق العائدين؟!

ختامًا، لا بد من التنويه بأن وضع اللاجئين في حاجة إلى حل علمي وإنساني وسياسي ومضمون قبل كل شيء، وهذا لا خلاف بشأنه، إلا أن الحملات التحريضية المستمرّة، وبشكلها الراهن، وبشكلها العنصري الخفي، هي لتأجيج نار الفتنة بوجوه اللاجئين ليس إلا. وهي محاولاتٌ تقوم طبقة مأزومة بها، طبقة شرهة لا تستطيع إلا النهب ولا تستطيع كفّ يد نفسها عن مال شعبها العام ولا عن أموال اللاجئين ومنحهم، ولا تستطيع تقديم أي علاج فعلي وجدّي للأزمات التي تطيح البلاد، بل تمعن في سياسات تعريض لبنان للانهيار المستمرّ، فالحاجة إلى معالجة ملفّ اللاجئين من أجل اللاجئين، بهدف حمايتهم من أي آتٍ، بهدف خلاصهم من خطاب السفاهة والكراهية والشر قبل كل شيء. لعل المحافظ خضر، يومها، يصل إلى حقيقة أن راتبه نفسه، ذاك الذي لا يصل إلى ما يناله اللاجئ من الجهات المانحة، لن يصل إلى جيبه.

المصدر: العربي الجديد

قد يعجبك ايضا