لماذا تصاعد نشاط “داعش” بعد مقتل البغدادي؟

جسر: متابعات
قالت وسائل إعلام موالية إن اعتداءً على مصفاة حمص ومعمل غاز جنوبي المنطقة الوسطى ومحطة الريان للغاز، يرجح بأنه نُفّذ عبر طائرات مسيرة، تسبب باندلاع حريق في مصفاة حمص. ونفّذ تنظيم “الدولة الإسلامية” هجوماً، السبت، في وادي الظبيات قرب بلدة السخنة، انتهى بمقتل 13 عاملاً في مجال النفط، و11 مقاتلاً من قوات النظام ومليشيا “الرضا” الإيرانية المكلفة بحراسة حقل الهيل النفطي.
وعاد التنظيم لتنفيذ هجمات منسقة غربي الفرات، حيث تسيطر قوات من نظام الأسد والمليشيات الايرانية، يتنقل فيها مقاتلوه بسيارات بيك آب رباعية الدفع، تأتي من مخابئ في الصحراء، وتهاجم نقاط تمركز القوات في القرى وقرب المواقع النفطية. آخرها كان هجوماً على موقع للمليشيات الايرانية قرب مدينة الميادين، قتل فيه 14 مقاتلاً منها، وسبقه هجوم في منطقة الشولا على طريق دمشق-ديرالزور، ما أدى لقطعه ليلة كاملة.

وفي الأسبوعين الماضيين، وفي بلدتي ذيبان والحوايج المتجاورتين، الواقعتين تحت سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” شرقي نهر الفرات، اغتال تنظيم “الدولة الإسلامية” 14 رجلاً، أربعة منهم في يوم واحد، وبالطريقة ذاتها؛ شبان ملثمون على دراجات نارية يستوقفون شخصاً ويطلقون النار عليه، ثم يتوارون في المناطق السكنية.

كما شهدت بلدات أخرى في ريف ديرالزور، 9 إعدامات مماثلة، وقد تبناها تنظيم “داعش”، زاعماً أن من قتلهم من المقاتلين في “قسد” أو الموظفين المدنيين لديها.

عودة التنظيم لم تكن عسكرية فقط، بل عاد لفرض الضرائب في مناطق نفوذه السريّة، كأمر شبه اعتيادي، وهو يجبيها على شكل “زكاة” من أصحاب رؤوس الأموال، أو المهن والنشاطات التي تدر دخلاً معقولاً، وإلا فإن القتل بانتظار “المرتد” الممتنع عن الدفع.

فعلياً، فإن تصاعد نشاط التنظيم بعد مقتل قائده السابق “أبو بكر البغدادي”، على يد قوات خاصة أميركية في 27 تشرين الثاني، لم يكن بلا أسباب، كما أنه ليس بلا نتائج.

أسباب آنية.. جذورها عميقة

قد يكون اثبات القيادة الجديدة، التي خلفت البغدادي، وربما جزءاً من فريقه، لقدراتها التي ستعطيها الشرعية داخل التنظيم، هي الدافع الحقيقي لموجة التصعيد الدموي الحالية، أكثر مما هو انتقام لمقتل القائد السابق.

لكن إثبات الذات هذا، ما كان ممكناً لو لم يكن هناك جهاز أمني سري، قوي ومتماسك. وهو الجهاز الذي أعده التنظيم سراً منذ نشأته، فقد عمل بدأب على تجنيد وتدريب أعداد كبيرة من المؤيدين، خاصة من اليافعين، إبان فترة سيطرته، من دون أن يعلن انتماءهم للتنظيم، تحسباً لهذه المرحلة التي تقتضي تدخل أشخاص غير معروفين بانتمائهم أو حتى تعاطفهم مع التنظيم.

وقبيل سقوطه في الباغوز، تم توزيع رسالة صوتية لأحد قادة تنظيم داعش المحاصرين، يتحدث فيها عن “الولايات الأمنية” التي سيتم اللجوء إليها في المرحلة التالية، بعد أن أصبح الشكل التنظيمي السابق مستحيل التطبيق. واستراتيجية الولايات الأمنية تم الترتيب لها مسبقاً بشكل كافٍ، على ضوء تجارب الجهاديين السابقة في العراق وما شهدته من انتكاسات، وهو شكل يتلاءم مع العمل “تحت الأرض” من جهة، واستمرار “الدعوة” الدينية من جهة أخرى.

ولا يقتصر النشاط على العمل الأمني والعسكري الصرف، بل هناك استمرار حقيقي لتطبيق قوانين التنظيم لـ”الشريعة”، وإجبار وقسر الجمهور العام على اتباع التعاليم المتشددة. وهو إجراء يقصد به عدم السماح للمجتمعات المحلية بالانفصال عن أيديولوجيا التنظيم أو مناهضتها بشكل صارخ.

من ناحية أخرى، لم تفقد تلك الإيديولوجيا على ما يبدو فعاليتها مع تلقيها الضربات الأخيرة، من سقوط الباغوز إلى مقتل البغدادي، بل أنها كبعض الإيديولوجيات، تصبح أكثر جاذبية للمتعاطفين معها عند قتل قادتها، وتصبح التضحية في سبيلها أهون وأكثر سهولة، خاصة أن الظروف التي أدت لصعود أيديولوجيا “داعش” وغيرها من الحركات الجهادية، ما زالت قائمة، بل ازدادت رسوخاً، سواء لجهة الحملة الوحشية التي يشنها نظام الأسد على الشعب السوري، أو الهيمنة الايرانية بوجهها المذهبي على العراق، وتهميش وقهر السُنّة.

من يريد داعش حياً؟

أطلقت “قوات سوريا الديموقراطية” سراح الآلاف من منتسبي التنظيم بعد اعتقالهم. بطبيعة الحال فإن أعداداً منهم لن تسعى للعودة إلى التنظيم مرة أخرى، لكن نسبة كبيرة منهم مؤدلجة بشدة وستستأنف العمل مع التنظيم في اليوم التالي لإطلاق سراحها. قادة “قسد” يعرفون ذلك، ويعرفون أن كلفة أي “داعشي” طليق أكبر من كلفته سجيناً لديها. لكن في ميدان الاستثمار السياسي، فإن وجود هؤلاء خارج السجون أكثر جدوى، إذ ما الذي يمكن أن تقدمه القوات الكردية للعالم، وللولايات المتحدة على وجه التحديد إن اختفى وحش “داعش” من الوجود تماماً؟

من ناحيتها، بعض المجتمعات العربية المحلية لا تريد زوال تهديد “داعش”، فهو أداتها الوحيدة الممكنة لمواجهة حالة الحرمان والتهميش والاستلاب التي تعاني منها، شرقي الفرات، في ظل حكم أقلية كردية من خارج مناطقها، بل ومن خارج سوريا ايضاً، وفي ظل سيطرة نظام الأسد الطائفي والمليشيات الشيعية على منطقة في غالبيتها العظمى من السنة غربي الفرات.

وليس لموسكو وطهران ونظام الأسد أي مصلحة باختفاء هذا البعبع، الذي سمح لهم جميعاً بممارسة أشد أنواع البطش الاجرامي في سوريا، تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”. وحتى مع استتباب الامور لهم في مناطق سيطرتهم، يبقى للتنظيم وظيفة أساسية لن ينجزها أحد سواه؛ استمرار تخويف حواضن النظام كلما ازداد سوء الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية. وقد لوحظ تصاعد هجمات التنظيم بالتزامن مع موجة استياء شعبية عارمة بعيد الانخفاض الحاد في سعر الليرة، وتدهور الوضع المعيشي لمستويات غير مسبوقة.

سيدفعون به إلى السطح قريباً جداً

التنظيم الذي لا يعرف سوى “الذبح” وسيلة لإثبات نفسه، يسنّ سكاكينه في ملاذاته الآمنة التي تركت له. ومع تصاعد ازمة نظام الأسد الاقتصادية بعد توقيع “قانون سيزر”، وأزمة النظام الإيراني الذي تخنقه العقوبات، وموسكو التي تعاني من الفشل حتى الآن في سوريا، و”قسد” المستاءة من التخلي الاميركي عنها لصالح تركيا.

ولذا، فإن شبح التنظيم قد لن يطول قبل أن يبرز إلى العلن، باسطاً سيطرته على منطقة أو أكثر، قاطعاً رؤوس سكانها. وسيكون ظهوره شبحاً لظهوره السابق، أقل تماسكاً وصلابة، لكنه قادراً على التخويف وبث الرعب، وسيؤكد رسالته التي أطلقها قادته عند تأسيس “دولة الخلافة” حين وصفوها بأنها “باقية وتتمدد”. فهم كانوا يعلمون أنها ستتعرض لانتكاسات متتالية، لكن الحاجة الوظيفية لهم ولتنظيمهم، في النظام الدولي الفاسد، ستبقى قائمة. بل وقد تتمدد مع ازدياد فساد ذلك النظام، وانحطاطه الأخلاقي المتسارع.

المصدر: المدن
قد يعجبك ايضا