لماذا يستقبل الأسد الزوار بنفسه؟

عمر قدور

تقتصر الأخبار ليوم الاثنين في صدارة موقع سانا على استقبال بشار الأسد البرلمانيين العرب، مجتمعين وفرادى، وعلى استقبال وزير خارجية مصر، لتظهر صورة كبيرة للأسد خلفه في قاعة مطار دمشق، قبل ذهابه من المطار إلى ضيافة صاحب الصورة. بالطبع سيكون سهلاً تأويل ذلك باحتفال سانا، والأسد شخصياً، بفكّ العزلة عنه، لذا هناك حرص على إبراز هذا الجانب، كحرصه أيضاً على استقبال البرلمانيين مجتمعين وفرادى لكسب قدْر أكبر من الظهور رفقة ضيوفه العرب.

ها هو الحضن العربي قد عاد إلى الأسد. وصياغة الجملة الأخيرة ليست خاطئة، هي تماشياً مع قول بشار “عندما سُئل يوماً في لقاء تلفزيوني عن عودته إلى العرب” أن السؤال يجب أن يكون عن عودة العرب إليه لا العكس. وثمة سابقة يستند عليها في توقعه عودة نظرائه العرب، ففي آب 2006 وصف القادة العرب بأنصاف الرجال، ملمِّحاً على نحو خاص إلى قادة مصر والسعودية والأردن، وبعد سنوات قليلة من القطيعة أُعيدت العلاقات معه كسابق عهدها أو أكثر. في خطابه آنذاك، الذي تلا اغتيال الحريري وحرب تموز، كان واضحاً في استقوائه بإيران وحزب الله وفي التعبير عن احتقاره العرب، بما أنه لا يحسب لهم حساباً ضمن القوى المؤثرة والفاعلة، باستثناء الأموال التي يمكن الحصول عليها منهم.

لن نستذكر مجمل مواقف الحكومات العربية منذ اندلاع الثورة في سوريا، وتراجعها إجمالاً لمصلحة الأسد، بعد اصطدام بعضها برفض أمريكي لدعم عسكري كافٍ لإسقاطه. فبشار عملياً لم يتراجع على الإطلاق، وموقفه المتشبّث بالسلطة هو أكثر مواقفه مبدئية، ونعني بالتشبّث تمسّكه بالسلطة المطلقة وعدم استعداده لمشاركة جزء منها مع سوريين، واستعداده باستثناء ذلك لتقديم تنازلات للخارج. ربما مثلاً، في مبادرة العرب الأخيرة، تحصل بعض الدول المتضررة على تنازلات تخص التوقف عن تهريب الكبتاغون إلى أراضيها، ولا ندري ما إذا كان وارداً تقديمُه القليل من التنازل في موضوع عودة اللاجئين من الأردن ولبنان.

باستقباله جميع الزوّار يريد بشار القول أنه، كما كان دائماً، المُمسك الوحيد بالسلطة في سوريا، والوحيد المخوَّل للبتّ في أصغر التفاصيل. هو يؤكّد على أن عودة العرب إليه شخصياً، وتحديداً كما هو عليه بلا أدنى تغيير. الرسالة هنا تستبق أي حوار أو مطالبات عربية بإجراءات حقيقية “لا شكلية ومؤقتة وكاذبة” من أجل اقتسام السلطة، إذا كانت هناك مطالبات من هذا القبيل لدى بعض الدول العربية.

اليوم، أكثر مما كان عليه قبل ادلاع الثورة، يمسك بشار بكافة مفاصل السلطة العسكرية والمخابراتية والاقتصادية، بما في ذلك اقتصاد الظل. خلال المدة ذاتها، وعلى نحو أوضح بعد التدخل الروسي لحمايته، لم يعد هناك من معنى حتى لمفهوم الموالاة، فهو قد بقي في السلطة بفضل إيران ثم روسيا، وداخلياً بفضل أولئك الذين نفّذوا أعمال الإبادة والتهجير والسطو على ممتلكات الضحايا. يمكن فقط استثناء المفاصل التي تمسك بها طهران أو موسكو من القبضة الحديدية للأسد، والعرب الذين طرقوا باب موسكو طُلب منهم التفاوض معه، بمعنى أن مستقبله هو غير مطروح للنقاش.

على كل حال، ليس من تقاليد الأنظمة العربية ربط علاقاتها البينية بموضوع الديموقراطية، والديموقراطية ليست حتى من تقاليد غالبية البرلمانات العربية. ما يجعل التطبيع مع الأسد أشدّ وطأة استقباله هؤلاء الزوار لإظهار مجيئهم على حقيقته، لإظهارهم معه في الصورة بعد قتله مئات ألوف السوريين وتهجير الملايين. الصورة هي التي تتكلم لتقول أنهم يطبّعون مع ذلك كله، وبلا أدنى حياء، بل مع المزيد من الابتسامات والحبور، وكأن القطيعة هي الخطأ الذي تم أخيراً تداركه.

بالتأكيد لسنا في معرض هجاء العرب، ولا نربط السياسة بالأخلاق، إلا أن هذا التهافت للتطبيع مع الأسد يعني بلا مواربة التطبيع مع كل ما يُنسب إليه من مجازر وجرائم حرب، لا وفق قولنا وإنما وفق العديد من التقارير الدولية، بما فيها تقارير جديدة تثبت استخدامه السلاح الكيماوي. حرصُ الأسد على لقاء المسؤولين العرب، من أكبرهم إلى أصغرهم، هو تماماً لإظهارهم مطبِّعين مع كل ما يمثّله، وشركاء بالمعنى الرمزي.

أما عدم ربط السياسة بالأخلاق فينبغي ألا يعني خروج الأولى عن كافة المعايير الأخلاقية، ومن المفيد التذكير بأن جزءاً معتبراً من نضالات الملايين حول العالم كان لجعل السياسة أكثر إنسانية وأخلاقية. ورغم كل ما نقوله عن القوانين الدولية واستباحتها من الأقوياء، أو المحميين منهم، فهذه القوانين ذاتها هي نتيجة لذلك السعي من أجل سياسة أكثر إنسانية وأكثر عدالة، وفي مقدمها القوانين التي تدين الأسد على جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، وإن كانت تركيبة مجلس الأمن قد منعت وضع آليات محاسبة خاصة بسوريا، ولم يتبقَّ للسوريين سوى اللجوء إلى محاكم أوروبية محلية.

أن لا يظهر مسؤول عربي واحد من بين الذين أوفِدوا، أو سوف يوفدون وفق توقعاتنا، ليرفض لقاء الأسد أو مصافحته فهذه دلالة بالغة السوء على أحوال المنطقة والذين يمتهنون السياسة فيه. نستذكر، في مثال مغاير، وزير خارجية مصر محمد إبراهيم كامل الذي استقال عشية توقيع اتفاقية كامب ديفيد، احتجاجاً على تنازلات قدّمها السادات لا على مبدأ المفاوضات نفسه. الجدير بالذكر أن كامل، احتراماً منه لموقفه، رفض العودة بطائرة السادات رغم طلب الأخير، في تأكيد على رفض التواجد مع شخص ما في مكان واحد عندما يصبح لذلك رمزية غير مقبولة.

مهما كانت وستكون نتيجة المباحثات بينه وبين نظرائه العرب، كسبَ الأسد بتحطيم الحاجز النفسي الذي كان ينبغي أن يُبقي هؤلاء بعيدين عنه. وهو يعلم، كما نعلم جميعاً، أن عودة الحضن العربي إليه مشروطة بتوجه أمريكي أكثر ديمومة، لأن مجرد إعادة واشنطن العقوبات المفروضة عليه سيردع المسؤولين العرب وسواهم عن التعامل الاقتصادي الذي هو بيت القصيد بالنسبة له. من أجل ما هو أبعد من ذلك، من أجل الاتفاق على مستقبل سوريا، يلزم زلزال من نوع مختلف، مركزه واشنطن، ولا أحد حتى الآن يستطيع الجزم بأنه حدث حقاً في غمرة الانشغال بالزلزال التركي.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا