لنساعدْ أوروبا المسكينة

جسر: رأي:

المدن 10 آذار/مارس 2020

ليس من سلوك “نموذجي” يتوّج المقتلة السورية مثل الصور والأخبار التي تواردت من الحدود التركية-اليونانية؛ رجالٌ قام حرس الحدود اليونانيون بضربهم وتعريتهم من ملابسهم ودفعهم وراءً، قوارب لاجئين حاول الحرس إغراقها بمن فيها، إطلاق رصاص على بعض الذين حاولوا اجتياز الحدود. أنواع من الوحشية لم تكن تخطر في البال من قبل، والأسوأ أنها مدعومة من القادة الأوروبيين الذين وصفوا اليونان بدرع أوروبا، وتوجهوا بالإدانة إلى أنقرة التي سمحت لهم بمغادرة أراضيها.

قد نقول الكثير مما هو سلبي في حق أنقرة التي فتحت حدودها في الاتجاه الأوروبي، بينما أغلقتها منذ زمن طويل في وجه المهجّرين السوريين الهاربين من وحشية الأسد وحلفائه، خاصة ما يزيد عن مليون مهجّر إضافي في التصعيد الأخير باتت نسبة ضخمة منهم في العراء. وقد نقول الكثير مما هو سلبي في حق السياسات التركية التي على الأقل أخلت بدور أنقرة الضامن في تفاهمات أستانة وسوتشي، وتتحمل تالياً المسؤولية عن جزء من مأساة اللاجئين. أيضاً لا ننسى استخدام ورقة اللاجئين المتواتر من أجل الضغط على أوروبا، ما جعلها في إطار الابتزاز أو التجارة بدل أن تكون نهجاً مدروساً ومتكاملاً لوضع الغرب أمام واجباته السياسية قبل الأخلاقية.

ما سبق ينبغي ألا ينسينا أن أنقرة غير قادرة على ابتزاز أوروبا لو لم تكن الأخيرة ترى في الثمن الذي تدفعه لها أهون الشرور، وهو ثمن غير باهظ كما يُراد تصويره، ولا يُقارن من الناحية الاقتصادية البحتة بالكلفة المترتبة على دول الاتحاد الأوروبي فيما لو تقاسمت بعدالة عبء أولئك اللاجئين على أرضيها. لندع المزايدات الإعلامية جانباً، المساعدات التي قدّمها الاتحاد الأوروبي للاجئين في دول الجوار بخسة من حيث القيمة إذا قارناه بكلفة استضافة نسبة عادلة من هؤلاء في أوروبا، يُضاف إلى ذلك ذهاب نسبة من المساعدات كرشوة لبعض دول الجوار المضيفة، حيث لا نعدم وجود منسوب من الفساد يعرفه الغرب جيداً، فلا يصل إلى اللاجئين سوى جزء ضئيل من المبالغ المعلنة.

إن أحوال اللاجئين في مخيمات دول الجوار تفضح وحدها الهوة الشاسعة بين الأرقام المعلنة والواقع، نحن مثلاً كل شتاء نرى المآسي ذاتها التي تودي بخيامهم، وبحياة أطفالهم، ونرى الأوبئة التي تتفشى بينهم، فوق تردي مستوى التعليم إن لم يكن غيابه نهائياً. أما من ناحية الأمان فنعلم أن أولئك اللاجئين لا يحظون بأي حصانة قانونية، ولا بوضعية اللاجئ بموجب الإعلان الدولي لحقوق الإنسان. هم في غالبيتهم أصحاب إقامة مؤقتة تتيح للدول المضيفة إجبارهم على العودة متى تغيرت سياساتها، وفي الحد الأدنى تتيح لها التضييق عليهم طوال الوقت في حقوق العمل والتنقل وتحيل حياتهم جحيماً.

تعلم دوائر صنع القرار الأوروبية أن ما تدفعه زهيد جداً قياساً إلى واحدة من أضخم الأزمات الإنسانية عبر التاريخ، وتعرف أساليب الفساد التي تتخلل صرف تلك المساعدات، وإذا لم تكن تعلم وجبت مساءلتها لأن الأمر يتعلق بقضية تمس دول الاتحاد مباشرة، وترى بعض نخبها السياسية أنها تمس أمنها القومي أو بنية بلدانها الديموغرافية. بمعنى أن مجمل ما تدفعه دول الاتحاد الأوروبي لا يُقارن بحجم المأساة التي تقع على حدودها، والتي سيكون لها تأثير عليها مهما اتبعت من طرق للوقاية، بما فيها أشدّها خسة وهي التضامن مع انتهاكات حرس الحدود اليوناني.

لتكون المسألة أوضح، لم يرغب السوريون يوماً بمغادرة وطنهم على هذا النحو طمعاً بـ”النعيم الأوروبي”، ولم يكفّوا بالمطالبة عن توفير الحماية لهم في بلدهم. السياسات الدولية التي سمحت ببقاء الأسد واستمراره بنهج الإبادة مع حلفائه هي التي خلقت مشكلة اللاجئين، وأوروبا تتحمل قسطاً من المسؤولية عن بقاء الأسد ونتائجه. لو توفرت النية الغربية للتدخل لأمكن الالتفاف على الفيتو الروسي في مجلس الأمن من خلال القانون الدولي نفسه عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يكفي على هذا الصعيد وصف قضية اللاجئين بأنها سياسية، بل هي قضية تتعلق بالأمن والسلم الدوليين بموجب المخاوف التي لا تتوقف جهات غربية عن إعلانها.

نحن لا نتحدث عن مسؤولية أوروبية في حالة طوارئ، لدينا فرنسا التي تشغل مقعداً دائماً في مجلس الأمن، وكذلك إنكلترا قبل انسحابها من الاتحاد، ما يرتّب على أوروبا التزامات للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. على الضد مما هو مأمول، رأينا الرئيس الفرنسي الحالي يوماً يصرّح بألا مشكلة له مع الأسد الذي يقتل شعبه وأن مشكلته مع داعش فقط، وتلك مشكلة سياسية قبل كونها أخلاقية لأن صاحب التصريح يتغافل عن الآثار المستقبلية للإبادة والتهجير على أوروبا نفسها. حتى في الأزمة الأخيرة، انصرف معظم التصريحات الأوروبية إلى إدانة أردوغان وتنصله من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي الخاص باللاجئين، ولم نشهد تحركاً أوروبياً لائقاً إزاء تهجير أكثر من مليون سوري جديد جرّاء التصعيد الأخير في إدلب.

الحديث هو عن تجارة وابتزاز لا يقتصران على ما نراه بين أوروبا وتركيا، إنها سلعة داخلية أيضاً صارت حاضرة مع كل موسم انتخابي أوروبي. اليمين بتفرعاته يستخدم قضية اللاجئين ليحملهم مسؤولية التردي الاقتصادي الناجم أصلاً عن الأزمة المالية لعام 2008 وأزمة القوى السياسية التقليدية، والوسط يتجه حثيثاً لإرضاء الناخب اليميني باعتماد خطاب مشابه إزاء اللاجئين. هناك قسم من اليسار يعتمد خطاباً إنسانياً تجاه اللاجئين، وفي الوقت نفسه مؤيد لبشار، أي أنه يتلاقي سياسياً مع اليمين الشعبوي الذي يؤيد بشار ويؤيد ضمناً سياسة الإبادة مع اختلافهما في التعاطي مع نتائجها.

من نتائج تلك التجارة في ملف اللاجئين تسويغ الانحراف يميناً لدى النخب السياسية الأوروبية، درءاً لصعود اليمين المتطرف أو الشعبوي، فتنتهج النخب الحاكمة غير المنتمية إلى اليمين سياسات ترضي الأخير وما يحدث أنه يكسب الرهان سواء فاز في الانتخابات أو خسر. بالطبع، لا ينبغي أن نعوّل على المصادفة لتفسير غياب برامج سياسية جذرية وطموحة داخلياً مع غياب الفعالية الأوروبية في السياسة الدولية، فأولئك الذين يُنتخبون كبدلاء الأمر الواقع عن اليمين المتطرف هم تمثيل للديموقراطية في أشد حالاتها ضعفاً وبؤساً.

لكن، كي لا نبالغ في قراءة ضعف النخب الأوروبية الحاكمة، يجدر بنا الانتباه إلى أن تسويق العجز الأوروبي أصبح سياسة، وصار لها أتباع ومريدين داخل وخارج أوروبا، وكذلك هو الحال مع التخويف من صعود اليمين المتطرف. لقد تجاوزنا وصف “القارة العجوز” إلى أوروبا المسكينة المهددة بالتطرف الداخلي والإرهاب القادم من الخارج، وعلينا مساعدتها في محنتها هذه. علينا لوم أنقرة التي فتحت الحدود مع أنها تستضيف من اللاجئين أكثر من ضعفي ما تستضيفه دول الاتحاد، وعلينا النظر إلى وحشية حرس الحدود اليوناني كإجراء روتيني لحماية أوروبا من “الجراد” القادم من الشرق، علينا العمل بكل ما أوتينا من إمكانيات كي نمنع صعود اليمين المتطرف الأوروبي وتنعم أوروبا بالسكينة والاعتدال، ولو اقتضى ذلك منا بعض التضحيات كأن نموت تحت القصف الروسي والأسدي.

قد يعجبك ايضا