لن تُصلح العطار ما أفسده الكيمياوي

عبد الناصر العايد

كان من المفترض أن تذهب نجاح العطار إلى التقاعد في العام 2000، عندما أقالها رأس النظام الجديد حينها، بشار الأسد، من منصبها كوزيرة للثقافة والذي شغلته نحو ربع قرن ابتداء من العام 1976، وعيّنها في منصب شرفي هو نائبته للشؤون الثقافية والإعلامية. لكن بؤس الحال الثقافي أرغمه على استعادتها بعد نحو ربع قرن آخر، ليحاول عبر تكريمها بواحد من أرفع الأوسمة السورية، أن يسبغ مسحة ثقافية، مستحيلة واقعياً، على النظام الذي اشتهر بالبراميل المتفجرة والإبادة بالسلاح الكيمياوي والاغتصاب والقتل تحت التعذيب. وقد كان ملفتاً في رمزيته، تزامن التكريم مع ظهور فيديوهات جديدة لأجهزة أمن النظام، وهي تحرق جثث معارضين، إمعاناً في التشفي فيهم بعد مقتلهم.

لقد عجز نظام الأسد، منذ عهد الأب، عن إيجاد حل لمعضلة القطيعة بين سلطته القمعية الديكتاتورية وحقل الثقافة الذي لطالما قبعت غالبية وجوهه الأبرز في مقاعد المعارضة، لكن بصيغتها الثقافية التي لم يجد فيها الأسد خطورة تذكر، ما دامت معارضة ذات طابع شخصي غير منظّم، وضعيفة الفعالية بعدما حرمها من الأدوات والقنوات والمنابر التي يسيطر عليها بشكل كلي، ومع وجود بدائل من أشباه المثقفين الذين يمكنهم إضفاء مسحة ثقافية على النظام، بوصف العمل الثقافي غير المربح اقتصادياً، أحد أهم وظائف “الدولة” ومظاهر عموميتها.

ولطالما كانت العطار على خط المواجهة ذاك، منذ تسلمها إدارة الترجمة والنشر في وزارة الثقافة في الستينيات، كعرّابة لسياسات النظام الثقافية من جهة، وبدقة أكبر لحافظ الأسد ذاته، والذي كانت تجمعها به علاقة عائلية وصداقة وثيقة مع زوجته لأنيسة… ومن جهة أخرى، مع المثقفين السوريين، بعدما أحاطت منصبها الرسمي ببعض من اللامعين منهم، كأنطون مقدسي وحنا مينه ومحمد كامل الخطيب، ولعبت دور الحامي لعدد آخر، خصوصاً اليساريين، سواء من عسف الأجهزة الأمنية، أو من المحاربة في لقمة العيش التي اتبعها النظام ضد أكثرهم راديكالية، معتمدة في ذلك على نفوذها لدى العائلة الحاكمة، والذي يتيح لها تجاهل تعليمات الأجهزة الأمنية النافذة ذاتها. وللعطار من هذه الناحية دالّة على عدد كبير من المثقفين، ما زالوا يذكرونها لها حتى اليوم، ما يمنعهم من انتقادها، لكن هذا لا يثبت نزاهة تلك الوزيرة بمقدار ما يعكس مستوى عضويتها العالية في جوقة النظام.

لم تكن مكانة نجاح العطار في النظام مستمدة بالكامل من مواهبها وميزاتها الشخصية. فقد كانت لهويتها الاجتماعية، كسليلة لأسرة دينية دمشقية توارثت الخطابة والتدريس في الجامع الأموي جيلاً بعد جيل، دوراً في الانتقاء. فحافظ الأسد وجد فيها ضالته لمحاولة اختراق البيئات السنيّة المدينية المحافظة التي وقفت موقفاً سلبياً من نظامه. لكن العطار لم تحرز نجاحاً يُذكر في هذا الإطار، ولم يعرف عنها وقوفها خلف أي مشروع لاختراق الحاجز بين تلك البيئات والنظام على الصعيد الواقعي. لكنها كانت، وما زالت، رمزاً لانتصار حافظ الأسد على خصومه الإسلاميين. فهي ليست أقل من شقيقة عصام العطار، أحد أبرز المراقبين العامين لتنظيم الإخوان المسلمين السوريين، والذي حاولت أجهزة النظام الأمنية اغتياله مرات عديدة في ألمانيا، نجم عن إحداها مقتل زوجته بنان الطنطاوي العام 1981.

وإذا كانت من سِمة لعمل نجاح العطار في ميدان الثقافة، لمدة نصف قرن من تاريخ سوريا، فهي اصطناع الزيف، وتجميل ما لا يُجمّل، سواء كانت نواياها صادقة كما يقول بعض المقربين منها، أو بدوافع انتهازية. ولتأكيد هذه النتيجة، يكفي المرء أن يلقي نظرة على المشهد الثقافي الذي وقفت على حطامه مكرّمة بأعلى وسام في البلاد. فالمكتبات ودور العرض والمراكز الثقافية التي بُنيت في عهدها الطويل، خاوية على عروشها، سواء لناحية المبدعين أو المرتادين. ونشاطاتها النادرة والمتباعدة اليوم، لا يكاد يتواجد فيها سوى عدد محدود من أشباه المثقفين الذين يرددون على مسامع موظفي تلك المراكز الأسطوانات الممجوجة عن فكر “القائد” وانتصاراته على الشعب السوري. حتى على صعيد التأليف والترجمة، وهو الميدان الذي ركزت فيها اهتمامها وعملها، وعاونها فيه بنوايا صادقة عدد من أبرز المثقفين السوريين، فإن نظرة فاحصة للإنتاج السوري الحر، في المنافي والمهاجر، بعد الانفجار الكبير، كاد يتجاوز في سنوات، ما أنجزته في عقود، مستعينة بجيش من الموظفين وبموازنات ضخمة.

ويكفي أن نذكر أنه، خلال السنوات الخمس الأخيرة، صدرت نحو 400 رواية للهاربين من مجزرة الأسد، وهي تعادل كل ما نشرته وزارة ثقافة النظام طوال نصف قرن لكتّاب سوريين، وكانت نجاح العطار خلالها المسيطرة على العمل والإنتاج الثقافي. والأهم، أن جلّ تلك الأعمال في المنافي وبلاد اللجوء، كُتبت في هجاء حقبة العطار والنظام الذي ما زالت تخدمه بعد تجاوزها الثمانين من العمر.

المصدر: المدن

قد يعجبك ايضا