لو كنت من سوريي الداخل

عمر قدور

يطالب سوريون وزارة الكهرباء بأن تعفيهم من الدقائق التي يحصلون على الكهرباء خلالها، كل خمس أو ست ساعات، عسى أن ينسيهم الانقطاع التام وجودَ الكهرباء من أصلها. المفارقة أننا نقرأ تلك المطالبات، التي لا تتعدى التذمّر، على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعني أن أصحابها قد حالفهم الحظ فحصلوا على الطاقة ليستخدموا الأنترنت وأجهزتهم الشخصية من كومبيوتر أو موبايل. أحياناً، على سبيل التعويض، يستغل البعض من هؤلاء الفرصة المحدودة زمنياً بنشاط أعلى من المعتاد، سواء بالنشر الغزير على حساباتهم أو الإفراط في التفاعل مع منشورات الآخرين.

الحديث في المقام الأول هو عن السوريين الواقعين تحت سلطة بشار الأسد، لكن البؤس بأشكال مختلفة موجود في مخيمات النازحين في الشمال السوري، والأوضاع المعيشية العامة لا تسرّ الخاطر في عموم المناطق الخاضعة للنفوذ التركي أو تلك الخاضعة للإدارة الذاتية الكردية. لو كان البؤس المعيشي مرادفاً للوطنية لكان أفضل جامع للسوريين في تلك المناطق، من دون أن يجمعهم مع سوريين آخرين يُظن أنهم نجوا من لعنة المكان.

مرّ المونديال الذي استمر شهراً، تلاه موسم أعياد الميلاد، ورأس السنة الذي له تقليدياً رمزية غير دينية. خلال شهر المونديال غرقت وسائل التواصل في الحدث العالمي وتفاصيله الرياضية وغير الرياضية، وحتى أثناء المباريات كان كثر من روّاد وسائل التواصل كأنهم يشاهدون المباراة على التلفزيون، بينما تمسك يدهم بالموبايل لتنقل حساباتهم انطباعاتهم المباشرة عن الحدث. لا نملك إحصائيات دقيقة، لكن نجزم بأن هذا أكثر مونديال شوهد عالمياً بواسطة الموبايلات أيضاً، بما يعنيه ذلك من تطور تقنية الاتصالات، أما توفر الكهرباء فهو بالطبع من البديهيات.

لا نريد بما يلي جلد الذات، ولا تقريع سوريين آخرين. لنفترض، وهذا ربما حصل آلاف أو عشرات ألوف المرات، أن سوريّاً من الداخل أتته نعمة الكهرباء والأنترنت لبعض الوقت، وفتح حسابه على فايسبوك مثلاً، ليجد فيه أصدقاءه من “سوريي الخارج” يتجادلون حول أحقية المنتخب الفرنسي بضربة جزاء لم يمنحها الحكَم في المباراة النهائية. أو، في دقائق مشابهة سابقة، وجد أصدقاءه يتغنون بأداء الفريق المغربي، ففرح للفريق المغربي، ليحزّ في نفسه “أكثر من المثال الفرنسي أو الأرجنتيني” أنه لم تُتَح له مشاهدة ذلك الأداء، وأن مقدار ما لديه من كهرباء وأنترنت لا يسمح بأكثر من قراءة ملخصات عن ما سبق.

لن يكون مهماً في مثالنا أن هذا السوري محب لكرة القدم أم لا، وربما “في ظروف مختلفة” كان ليشاهد أثناء مباراة المغرب برنامجاً على قناة أخرى عن عالم الحيوان، ثم يكتب على صفحته موبِّخاً الملايين على اهتمامهم بكرة تتناقلها الأرجل. ربما لم يعتد هذا السوري على الاحتفال برأس السنة، أو لم تكن ظروفه المعيشية تسمح له بالاحتفال، إلا أنه من قبل لم يكن يرى في صفحات سوريين آخرين مظاهر احتفالية من مختلف أصقاع العالم، حيث من المرجّح ألا يفكر بهم في تلك اللحظات بوصفهم لاجئين أُجبروا على مغادرة البلاد.

في حقبة انقضت كان يحدث شيء مشابه، عندما كان يوحِّد معظم السوريين إحساسهم بالعزلة والتأخر عن العالم. كان ثمة فرق بين الغالبية الساحقة والقلّة من الأثرياء الذين اكتسبوا الثراء بالسلطة أو بالتحالف معها، بمعنى أن الفجوة لم تكن كما هي اليوم بين ما نتحاشى تقسيمه إلى سوريي الداخل وسوريي الخارج. ولم يكن فيما مضى هناك هذا الارتباط الوثيق الماثل اليوم بسبب انقسام العائلات بين داخل وخارج، وهو ما يخفّف نظرياً وظاهرياً من وطأة الانقسام.

ضمن العائلة المنقسمة بين داخل وخارج، وضمن دائرة الأصدقاء المقرّبين، لن تظهر الآثار السلبية للانقسام بفضل طغيان المشاعر الإيجابية المتبادلة. إن سوريّاً يرى في عيش سوريي الخارج حيواتهم الطبيعية قلّةَ إحساس تجاه معاناته هو ذاته الذي يتمنى ذلك العيش وأكثر لمقرّبين من عائلته أو أصدقائه، إنه يستثني حصته من النقمة على الجهة الأخرى. شيء مشابه نراه من الجانب الآخر عندما يوبِّخ سوري أولئك الذين ارتضوا البقاء تحت حكم الأسد، وساهموا ببقائه، مستثنياً حصته من الأهل والأصدقاء الذين لا حيلة لهم إزاء الواقع!

المحصلة لن نجدها في مجموع الاستثناءات، بل هي فيما يترسخ تجاه الغالبية من الطرف الآخر. المحصلة هي في نظرة سوري من الداخل إلى عموم مَن هم في الجهة الأخرى، إذ يرى فيهم ناجين من المصيدة التي بقي عالقاً فيها، أو متسببين في مواجهة دموية ثم هاربين من عواقبها التي يواجهها من بقوا. وبالطبع تقدّم “معارضة الخارج” تبريرات أكثر من كافية لتُشتَم بوصفها ممثِّلة لسوريي الخارج، ولا نعني هنا أولئك الذين يبحثون أصلاً عن ذرائع خدمةً للأسد فواتتهم الفرصة.

دون إهمال عوامل الالتقاء العديدة بين الداخل والخارج، من الضروري الانتباه إلى التبعات الواقعية للانقسام. على سبيل المثال، اختلف سوريو الخارج في الرأي حول “قانون قيصر” الذي يفرض عقوبات أمريكية على سلطة الأسد، ولم يكن هناك اختلاف مماثل بين سوريي الداخل الذين من موقعهم يرون أنفسهم متضررين من العقوبات التي لن تؤثر على معيشة الأسد وبطانته. اختلافات من هذا القبيل أو سواه ستواجهنا أيضاً بين سوريي الخارج وسوريي الداخل تحت حكم قسد أو الفصائل الأخرى، وفي كل الأحوال لم يجعل تردي الأوضاع المعيشية الداخلَ أقرب إلى الخارج، وفي أحسن الافتراضات لم تحن تلك اللحظة بعد.

لاعتبارات أخلاقية ونفسية، تُطلَق أحياناً دعواتٌ على وسائل التواصل تحضّ على مراعاة مشاعر الأهل في الداخل، خاصة كلما تردّت أوضاع معيشتهم. لكننا نرى في تمرين من نوع “لو كنت من سوريي الداخل” مدخلاً لما هو أبعد من ذلك التبسيط الإنساني، نرى فيه مدخلاً للتفكير بما تسبب ويتسبب به على مختلف الصعد الافتراقُ بين داخل وخارج، وهذا مسار قد يطول زمنياً ليخلّف آثاراً يصعب محوها. هو تمرين فيه أيضاً بعض الأجوبة على التمرين المقابل، والذي لا يبدو مطلوباً: لو كنت من سوريي الخارج.

قد يعجبك ايضا