مئوية لبنان الكبير: من مؤتمر سان ريمو إلى زيارة ايمانويل ماكرون

جوانا كيالي

جسر: مقالات:

تمر مطلع أيلول القادم الذكرى المئوية الأولى لتأسيس دولة لبنان، وسط ظروف تاريخية وسياسية، أنتجت واقعا تم رسمه للمنطقة في زمن صعب، وظروف استثنائية، خصوصا ما تبع انفجار مرفأ بيروت على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان كانت ولا زالت تحمل في طياتها ما هو أبعد من مجرد (زيارة رسمية)، وتأتي في سياق تاريخي متصل، لا يمكن فهم الحالة اللبنانية إلا من خلال تتبعها.

الحرب العالمية الأولى ونتائجها

اندلعت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ حتى عام ١٩١٨، وانتهت بفوز الحلفاء على دول المحور، وكان من أهم نتائج تلك الحرب، اعلان نهاية عدد من الدول، إما بإعلان الهزيمة مثل الإمبراطورية الألمانية والدولة العثمانية ومملكة النمسا والمجر، أو نهاية روسيا القيصرية التي كتبت نهايتها عام ١٩١٧، بانتصار الثورة البلشفية التي أوصلت الشيوعيين لحكم روسيا، كما كتبت بداية عصر الاستعمار الفرنسي البريطاني، بشكله الحديث تحت مسمى الانتداب، تلاها وضع ميثاق عصبة الأمم التي كان الهدف من تأسيسها الحيلولة دون وقوع صراع دام كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى، والمساهمة في نزع فتيل الصراعات الدولية، كما مهدت لمجموعة من المعاهدات التي فرضتها الدول المنتصرة في تلك الحرب، على الدول المهزومة وهي ما عرف لاحقا بمعاهدات الصلح.

لكن ماهي معاهدات الصلح؟

هي جملة الاتفاقيات التي أبرمت بين الحلفاء المنتصرين على رأسها فرنسا وبريطانيا، وبين الأمم المهزومة ممثلة بألمانيا والدولة العثمانية ومملكة النمسا والمجر.

من أهم تلك المعاهدات:

-معاهدة فرساي عقدت في ٢٨ حزيران ١٩١٩ بين الحلفاء وألمانيا تضمنت وضع كثير من القيود على الجيش الألماني، وسلخت أجزاء من ألمانيا وضمتها لدول مجاورة مثل ضم منطقتي الإلزاس واللورين لفرنسا وضم بعض الأجزاء لبولندا، كما ألزمت الحكومة الألمانية بدفع تعويضات مادية باهظة للدول المتضررة، ناء بحملها الاقتصاد الألماني، وهو ما أدى لاندلاع الحرب العالمية الثانية لاحقا.

-معاهدة سيفر عقدت في ١٠ آب ١٩٢٠ بين الحلفاء والدولة العثمانية، كبدت الأخيرة الكثير من الخسائر التي تمثلت باقتطاع أجزاء كبيرة من أراضي السلطنة، ومهدت لإسقاط الخلافة العثمانية لاحقا، كما كتبت بداية الانتدابين الفرنسي والبريطاني على بلاد الشام، وما جر ذلك من تبعات غيرت وجه المنطقة إلى أن تم تعديلها بعد ثلاث سنوات، بموجب معاهدة لوزان.

كما كان هناك معاهدات أخرى كمعاهدة سان جرمان مع النمسا في ١٠ أيلول ١٩١٩، ومعاهدة تريانون مع المجر في ٤ حزيران ١٩٢٠، ومعاهدة نوييه مع بلغاريا في ٢٧ تشرين الثاني ١٩١٩.

كان من أهم نتائج تلك المعاهدات أنها أنهت وجود كل من ألمانيا والدولة العثمانية في بعض المناطق، وأطلقت يد الحلفاء فيها تتقاسمها حسب مصالحها، كما أنها خلقت دولا لم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الأولى، مثل بولندا و تشيكوسلوفاكيا ولبنان، وساهمت بمضاعفة مساحة كل من يوغسلافيا ورومانيا على حساب كل من ألمانيا والنمسا والمجر مع فصل أجزاء شاسعة من أراضي الدولة العثمانية وضمها لدول أخرى وهو ما تم تحويله إلى واقع في مؤتمر سان ريمو.

مؤتمر /مؤامرة سان ريمو

انعقد المؤتمر في مدينة سان ريمو بإيطاليا، في الفترة من ١٩ إلى ٢٥ نيسان ١٩٢٠، وقد شاركت فيه وفود القيادة العليا للحلفاء، برعاية رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد ورئيس الوزراء الفرنسي ألكسندر ميلران، بالإضافة إلى وفد صهيوني ضم كلا من حاييم وايزمان وهربرت صموئيل، ووفودا أخرى تميز منها وفد ترأسه البطريرك الماروني الياس الحويك، الذي حمل في جعبته مطالبه للمؤتمر باستقلال وفصل لبنان عن سوريا بشكل تام، في الوقت الذي كان فيه الحلفاء يحولون اتفاقياتهم السابقة إلى واقع رسمي على الأرض، كما وضعوا استراتيجيات وخططا للمرحلة القادمة التي ضمنوا فيها هيمنة فرنسا على كل من سوريا ولبنان وهيمنة بريطانيا على العراق والأردن مع تنفيذ وعد بلفور بالنسبة لفلسطين، فضربوا عرض الحائط بمقررات مؤتمر باريس للصلح ومبادئ الرئيس الأميركي ويلسون، بحق الشعوب بتقرير مصيرها، ورسموا بداية عهد جديد من الهيمنة الاستعمارية تحت مسمى الانتداب.

المؤتمر السوري العام

عقد المؤتمر في مدينة دمشق بتاريخ ٨ آذار ١٩٢٠ بحضور الملك فيصل ورئيس الحكومة هاشم الأتاسي وأعضائها وعدد من الشخصيات البارزة، وانتهى بعدة قرارات أهمها:

-إعلان استقلال سوريا ملكية دستورية، وتنصيب الأمير فيصل ملكا على سوريا، بحدودها الطبيعية ، واستقلالها استقلالاً تاماً، بما فيها فلسطين، ورفض وعد بلفور وادعاء الصهيونية العالمية بأحقيتهم في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كما رفضت الوصاية الفرنسية والبريطانية على العرب.

-إنشاء حكومة مدنية برئاسة علي رضا الركابي وكان من أبرز أعضائها فارس الخوري وساطع الحصري ويوسف العظمة واعتبرت هذه الحكومة مسؤولة أمام المؤتمر السوري العام الذي عد مجلسا نيابيا، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين.

 

ثم تشكلت لجنة أنيط بها وضع دستور لسوريا وكانت برئاسة هاشم الأتاسي، فوضعت مشروع دستور من 148 مادة على غرار الدساتير العربية الحديثة، غير أن انعقاد مؤتمر سان ريمو وما نتج عنه من قرارات قد وجه ضربة شديدة لآمال الشعب في استقلال سوريا كاملة ووحدتها، فقامت المظاهرات والاحتجاجات وأجمعوا على رفض مقررات ذلك المؤتمر جملة وتفصيلا، والتصدي له بكل الإمكانات، كما شهدت بعض المناطق توترا بين المسلمين والمسيحيين بسبب إصرار البطريرك الماروني الياس الحويك ومعه مجلس إدارة جبل لبنان على فصل لبنان عن سوريا.

وفي تموز ١٩٢٠ انتقلت القوات الفرنسية من بيروت إلى سوريا لسحق الرافضين لمقررات سان ريمو الذين تجمعوا في دمشق وأعلنوا النفير العام والتصدي لمحاولة فرنسا فرض الانتداب والتقسيم بالقوة. وجه الجنرال الفرنسي غورو إنذارا للملك فيصل تضمن: قبول الانتداب الفرنسي وتسريح الجيش السوري وتسليم سكة حديد رياق-حلب، وفعلا بدأ الملك فيصل بتنفيذ بعض تلك الشروط لكن القوات الفرنسية أعلنت الزحف نحو دمشق متذرعة بعدم وصول موافقة الملك فيصل على شروطها.

تنادى المجاهدون وعددهم بالمئات للدفاع عن دمشق وكان على رأس تلك القوات يوسف العظمة وزير الحربية، وتصدوا لقوات الجنرال غورو في موقعة ميسلون مما أدى لاستشهاد يوسف العظمة وعدد كبير من رفاقه كما واصلت القوات الفرنسية زحفها إلى دمشق إلى أن دخلتها نهاية ذلك الشهر، ثم أعلن غورو عن وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.

البطريرك الحويك ولبنان الكبير

ولد البطريرك إلياس بطرس الحويك في حلتا عام ١٨٤٣ وتوفي في بكركي عام ١٩٣١، تلقى علومه الأولى في كلية اللاهوت في مدرسة مار يوحنا مارون قرب حلتا قريته، ثم انتقل عام ١٨٥٩ إلى مدرسة غزير التي كان يشرف الآباء اليسوعيون على إدارتها، وفيها درس اللاهوت والفلسفة وكان يتقن العربية والسريانية والفرنسية واللاتينية واليونانية، ثم رسم كاهنا عام ١٨٧٠.

عرف عن البطريرك دوره المهم في تحقيق انفصال لبنان عن سوريا الأم، وهو المطلب الذي أكد عليه أمام لجنة كينغ-كراين التي انبثقت عن مؤتمر الصلح في باريس وقدمت ضمن توصياتها بندا يتضمن استقلال لبنان الكامل عن سوريا بصفته كيانا منفصلا حفاظا على رغبة أبنائه بالاستقلال من صور إلى طرابلس، كما حمل البطريرك الحويك هذه الرغبة معه إلى مؤتمر سان ريمو ولقب حينها بطريرك لبنان إشارة إليه بصفته بطريركا يمثل جميع اللبنانيين.

في مطلع أيلول عام ١٩٢٠ أعلن الجنرال غورو من مقره في قصر الصنوبر بحضور البطريرك الحويك قيام كيان جديد باسم لبنان الكبير، على أساس متصرفية جبل لبنان ذي الأغلبية المسيحية ( أقضية: الكورة، البترون، كسروان، المتن، زحلة، وكلا من بلدات دير القمر والهرمل). وقد كان متصرفية عثمانية مستقلة ثم ضم إليه ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا)، فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع إلى 10452 كلم مربع، وازداد سكانه من 414 ألف نسمة إلى 628 ألفا حسب التقديرات المعتمدة حينذاك. كما أعلن في نفس التاريخ عن تقسيم سوريا إلى عدة دويلات باسم دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة جبل الدروز مما يمثل تطبيقا للنظرية الاستعمارية (فرق تسد)، وقضى تماما على حلم السوريين بالاستقلال والاتحاد مما أدى لاندلاع الثورات ضد الوجود الفرنسي في مرحلة لاحقة.

 

كما وضع لبنان تحت إمرة الكابتن ترابوه الذي سخر كافة الموارد المتاحة في خدمة سياسة الانتداب، وتصرف على هواه في كافة مفاصل الدولة اللبنانية، بداية بالتدخل في شؤون الحكومة والجيش والشؤون الخارجية والداخلية والأمن العام والشركات الأجنبية والمحلية وغيرها من قبيل فرض اللغة والثقافة الفرنسيتين في المدارس الحكومية والخاصة والهيمنة على قرار الحكومة اللبنانية، وهو ما أدى إلى صراع سياسي انتهى باتفاق المسيحيين والمسلمين معا فيما عرف بالميثاق الوطني اللبناني، الذي أدى بالنتيجة بعد نضال مرير لاستقلال لبنان تحت اسم الجمهورية اللبنانية عام ١٩٤٣.

أتمت القوات الفرنسية انسحابها من سوريا ١٧في نيسان سنة  ١٩٤٦ (وهذا التاريخ يسمى عيد الجلاء في لبنان وسوريا احتفاء بجلاء آخر جندي استعماري عن البلاد) ويكون بهذا قد انقضى عهد الانتداب في كلا البلدين.

مما سبق نستطيع أن نتفهم مآلات زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان، ضمن ذلك السياق التاريخ الطويل الذي ربط فرنسا بهذا الجزء من العالم، ليتم تقديمه الآن في إطار جديد عصري يرسم صورة جديدة للدور الفرنسي في المنطقة متمثلا بهيئة الأم الحنون الراعية لذلك الطفل الجميل.

وهنا يطرح السؤال نفسه:

هل خرج الاستعمار حقا؟  أم أنه يعود بثوب جديد؟

قد يعجبك ايضا