ماذا بقي من إسلامية الجولاني؟

حسام جزماتي

غاب شعار تحكيم الشريعة عن حملة هيئة تحرير الشام على مناطق في الشمال في وقت سابق من هذا الشهر. وحضرت شعارات توحيد الصف والقضاء على الفصائلية وعلى الفوضى التي تسببها، وبسط سلطة إدارة مدنية واحدة على جميع المناطق المحررة.

لا يعني هذا أن الأحكام والضوابط الإسلامية المطبقة في إدلب لن تنتقل إلى المناطق الجديدة التي كانت ستسيطر عليها الهيئة لو نجح مخططها، لكن ذلك سيكون نتيجة تيارات في قواعدها وقيادتها ليس بينها تيار أبي محمد الجولاني، قائدها ومؤسس نواتها الصلبة.

وذلك لأن عقدين من الزمن مضيا منذ اعتنق الشاب أحمد الشرع الأفكار الإسلامية وخرج إلى العراق مجاهداً، وأكثر من عقد من السنين على عودته من هناك مكلفاً من قيادته بتأسيس جبهة النصرة في سوريا. ولم تنقضِ تلك الأعوام دون أن تترك أثرها في حتّ هذه الأفكار، حتى الاهتراء، في نفس الرجل الذي حملته سيرته، ومهاراته الفردية، ليكون على رأس أكبر جماعة إسلامية مقاتلة في البلاد.

ومرة أخرى، بغض النظر عن دفعة الأسلمة المضافة التي كانت سيطرة الهيئة ستسبغها على مدن الريف الحلبي فإن ذلك لن يكون من أولويات زعيمها نفسه الذي يهدف، في الحقيقة، إلى توسيع سلطته وموارده المالية والبشرية وصولاً إلى طرح نفسه واحداً من لاعبين ثلاثة فقط سيجلسون، ذات يوم، للتفاوض على مستقبل سوريا، وهم نظام بشار الأسد والإدارة الذاتية و”الكيان السنّي” الذي لطالما بشّر به الجولاني ويطمح أن يكون على رأسه.

رغم ذلك لم يغِب الإسلام كلياً عن مواكبة غزوة عفرين، وما بعدها لو تمكن أبو محمد، الحوكمي اليوم، من المتابعة، بل حضر عبر مفهومين مفتاحيين لفهم ما جرى هما التغلّب والتترّس. هل تبدو الكلمتان غريبتين خارج البيئة اللغوية الفقهية؟ هذا صحيح. وذلك لأنهما تنتميان إلى ما يمكن تسميته فقه الهوامش، لا إلى متن الأحكام الشرعية العامة.

أما التغلّب فهو أمر عرَضَ لمؤلفي الأحكام السلطانية (الفقه السياسي) في التراث الإسلامي. فبعد أن ذكروا أن الطريقتين المشروعتين لتولي الإمامة هما اختيار أهل الحل والعقد، “أهل الشورى… وهم أعيان العصر” وفق الماوردي، أو نص أمير المؤمنين على تسمية خلَفه؛ لحظوا أن كثيراً من إمارات التاريخ الإسلامي لم تنعقد بإحدى هاتين الطريقتين السلميتين بل بقفز أحدهم إلى الحكم بالقوة وهو ما سمّوه التغلّب، واختلفوا حول إمامة المتغلّب بين مَن قال إنها لا تنعقد مطلقاً، فلا شرعية لسلطة تأتي بالقهر وتجب مناهضتها، وبين مَن رأى قبولها إذا سلّم الناس بالمتغلّب واستقر له الأمر وانتظمت الحياة العادية في حكمه، كنوع من الإقرار بالأمر الواقع واختيار أهون الشرّين، وكيلا يبقى الباب مفتوحاً للنزاع والفوضى وسفك الدماء. وهناك آراء تفصيلية أخرى.

التغلّب، إذاً، وسيلة غير مشروعة في الوصول إلى الحكم، لكن بعض الفقهاء تعامل معها بحكمةٍ محافِظة تعلي من شأن الاستقرار إذا تم ولم يشُب حكم المتغلّب فساد ولا بغي. وهو ليس وسيلة محبّذة يعلنها المتغلّب وإعلامه بضمير مرتاح، كما فعل خطاب هيئة تحرير الشام في تبرير المعارك الأخيرة، مطالبين خصومهم بإلقاء السلاح والاستسلام لحكم المتغلّب وكأنه فرض شرعي!

وإذا كانت الهيئة قد أعلنت اعتمادها التغلّب بوقاحة فقد أخفى قادتها أمر التترّس بعناية. ويرد هذا المصطلح بكثرة في أبواب الجهاد من كتب الفقه لوصف حالة واجهها المسلمون في حروبهم، حين عمد بعض أعدائهم إلى وضع أسرى من المسلمين في مواقع لا يمكن للجيش المسلم المهاجم التقدم فيها إلا بالرمي عليهم، فصاروا في حكم الترس الذي يتقي به الأعداء الضرب والطعن. وقد حظيت أحكام التترّس بعناية خاصة من الجماعات الجهادية المعاصرة لما رأوا أن فيها من شبه بالهجمات التي يشنونها على الجيوش الأجنبية والحكومات “الكافرة” في العالم الإسلامي، وقد لا تخلو من قتل بعض الأبرياء أو المارة من “عامة المسلمين”. غير أن التترّس الذي نقصده هنا سياسي ويختلف عن هذا الأمر الميداني. ولشرحه لا بد من استعراض تاريخ الجماعة الجولانية وتحولاتها منذ نشأتها.

أعلنت هذه الجماعة عن نفسها أولاً باسم “جبهة النصرة” في مطلع 2012. وحين انكشفت تبعيتها لدولة العراق الإسلامية سارعت إلى بيعة تنظيم القاعدة في نيسان 2013، قبل أن تفك ارتباطها به وتغيّر اسمها إلى “جبهة فتح الشام” في تموز 2016. كان كل هذا في إطار تحولات جماعة واحدة وعلاقاتها التنظيمية، لكن ما حدث بعد ذلك يختلف عما سبق. فحين رأى قادة الجماعة أن انفصالهم عن الأبوين الكبيرين المصنّفين إرهابيين، داعش والقاعدة، لم يجْدِ نفعاً في إخراجهم هم من قوائم الإرهاب؛ بادروا إلى محاولة خلط مياههم بمياه الآخرين. فأغرقوا “الساحة” بالحديث عن “الاندماج” طوال ستة أشهر توّجت بالإعلان عن تشكيل “هيئة تحرير الشام” في كانون الثاني 2017، على أمل ألا يطولها التصنيف الذي وشم أحد مكوناتها.

لكن شهوة السلطة عند الجولاني لم تسمح له بالتواري طويلاً خلف القيادة الشكلية التي جرى الاتفاق عليها، كما أن مركزية جبهة النصرة عادت للهيمنة على مفاصل الهيئة طاردة معظم الشركاء الذين بادروا إلى الخروج من الهيئة، جماعات وأفراداً، تاركين للجماعة الجولانية كتلتها الصلبة وبعض التنويعات، والتصنيف من جديد.

الخروج من التصنيف هاجس للجولاني الذي يطمح إلى لعب دور سياسي مستمر ولا يريد أن يلقى مصير أميريه البغدادي والظواهري. وبقدر ما كان يستنتج مدى صعوبة الأمر من الناحية القانونية كان يفكر في حلول تعطّل تنفيذه عملياً؛ كالامتناع عن دعم أي عملية خارجية، وضبط البؤر الجهادية المشكّلة من مهاجرين أساساً، لكن الأهم كان فرض السيطرة على بقعة جغرافية يسكنها الملايين ممن تترّس بهم بشكل جعل أي عقوبة له عقاباً لهم. وهذا ما يربك الدول والمنظمات في التعامل مع وضعية إدلب الحالية. ولأجل ذلك قدّم لهم “حكومة الإنقاذ” التنفيذية كمخرج لمعضلة “التعامل مع الإرهاب” قانونياً ومن الناحية المالية ذات الأهمية العالية في خططه.

في غزوه الأخير لشمال الشمال مضى الجولاني أبعد في مغامرته. ومهما بدا الأمر عصياً على المنطق فقد هدف إلى إدارة كامل المناطق المحررة، مباشرة أو من الباطن أو عبر شراكة شكلية قابلة للقضم يوماً بعد يوم. أملاً في أن يصبح، لو حقق ذلك بالتغلّب وبزيادة عدد تروسه، رقماً صعباً لا يمكن إغفاله في المعادلة لا مجرد شوكة مارقة في إدلب.

المصدر: تلفزيون سوريا

قد يعجبك ايضا