“مرتزق” سوري في ليبيا يروي تفاصيل رحلته وقتاله هناك

هذا النص دوّنه أحد المقاتلين السوريين -شدّد على عدم ذكر اسمه- من الذين جُنّدوا للقتال في ليبيا إلى جانب قوات “حكومة الوفاق” المدعومة من تركيا، ضد قوات “حفتر” المدعومة من روسيا التي جندت هي أيضاً عدداً كبيراً من السوريين.

جسر – (خاص)

هذا النص دوّنه أحد المقاتلين السوريين -شدّد على عدم ذكر اسمه- من الذين جُنّدوا للقتال في ليبيا إلى جانب قوات “حكومة الوفاق” المدعومة من تركيا، ضد قوات “حفتر” المدعومة من روسيا التي جندت هي أيضاً عدداً كبيراً من السوريين.

الرحلة.. سوريا – تركيا – ليبيا

في ليلة شتاء عاصفة، وبعد أن ابتل جسدي بالكامل نتيجة الانتظار لمدة أكثر من ساعة، تأتي سيارة بيك آب، لنصعد بها من الخلف كأننا أغنام تساق إلى الذبح، وباعتبار أنني غير مكترث، فلم يخطر ببالي شيء سوى أن أضع رأسي داخل السترة لكي أشعر بالدفء، لأنني فقدت الإحساس في جسدي من شدة المطر. ينطلق بنا البيك آب إلى المعبر، لننتظر أمامه من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الواحدة ليلاً، دون أي طعام أو ماء أو دخان أو حمام أو سقف يحمينا من هذا البرد الشديد.

عند الواحدة ليلاً أتى شخص تركي، أخذ أسماءنا ومعلومات عن كل شخص منا، قبل أن يسمح لنا بالدخول إلى المعبر، تلى ذلك عملية تفتيش دقيقة، ثم أخذوا هواتفنا واتجهنا إلى حافلات نقلتنا إلى مطار غازي عنتاب، وفي المطار صعدنا إلى طائرة عسكرية كبيرة، أقلتنا إلى مطار إسطنبول، ومن هناك صعدنا إلى طائرة الخطوط الجوية الليبية، وكانت الساعة تقارب الخامسة والنصف صباحاً، واتجهت بنا الطائرة إلى مطار معيتيقة في ليبيا، برحلة استغرقت نحو ثلاث ساعات ونصف.

في منتصف الرحلة بدأت تتعالى الأصوات لطلب الطعام، فما كان المضيفين إلا أن استقبلوا كلامنا بكل احترام، وقدموا وجبات لم أرى مثلها في حياتي، فالبسكويت والعصير المقدم لنا، سبق وأن رأيت إعلاناتهم على كبرى المحطات التلفزيونية، والمياه المعدنية التي قدمت لنا، كانت بمثابة كنز، فطوال فترة الثورة لم نعرف إلا المياه الكلسية، ولا أخفيكم أنني عندما رأيت وجبة اللحم مع الأرز ومن شدة جوعي، قمت بتناولها في أقل من دقيقة وكأن ثأراً كان بيني وبينها.

ما إن هبطت الطائرة في مطار معيتيقة حتى أتت حافلات أقلتنا إلى معسكر قريب من المطار، كان مكوناً من طابقين ومساحته تقدر بـ1500 متر، وما إن مر على دخولنا خمس دقائق حتى بدأت قذائف هاون من عيار 120 تتساقط علينا، ترافق ذلك مع وجود أشخاص أمام المبنى، وتسبب سقوط القذيفة الأولى بارتقاء الشهيد الأول كما أصيب عدد من الأشخاص، وبدأ الارتباك والذعر والخوف يرتسم على وجوهنا.

كان عددنا في ذلك الوقت 341 شخصاً، وبالنسبة لي لم أكن أكترث بأي شيء، ودخلت في نوم عميق قرابة 12 ساعة، بعدها أيقظني أحد الشباب وقال لي سنتوجه إلى مكان أكثر أماناً، وبعد نحو ساعة أتت حافلات وأقلتنا من المكان الذي كنا فيه، إلى مكان آخر يبعد نحو 10 كيلو متر، وهو مبنى يعود لوزارة الثقافة في منطقة الهضبة بوسليم، وكان عبارة عن مجموعة أبنية ضخمة جداً، وكل مبنى مكون من ثلاثة طوابق ومساحة كل طابق 2000 متر تقريباً، وهنا بدأت معالم الأنانية تظهر لدى بعض الأشخاص، عندما طلب منا الحارس وهو ليبي الجنسية أن نقتحم الغرف كي ننام فيها، فقاموا الذين كانوا معي بخلع أبواب الغرف، ليجدوا فيها حاجيات أصحاب المكتب المتنوعة، فما كان منهم إلا أن وضعوا يدهم على تلك الأغراض، واعتبروها غنائم خاصة بهم ضموها لمجموعة أغراضهم الشخصية.

في ذلك الوقت قمت بخلع باب إحدى الغرف، وانضممت إلى شخصين للنوم في نفس الغرفة، وبينما كنت أتكئ على الفراش من شدة التعب، قاما بتفتيش المكتب والعبث بمحتوياته، وأخذوا كل ما وجدوه من قرطاسية دفاتر وأقلام وأشياء أخرى، كما قام شخص آخر برمي شاشة كومبيوتر من الغرفة بحجة عدم وجود مكان للنوم، فما كان مني إلا أن سألته عن سبب قيامه بتلك الأفعال، وعلا صوتنا بالشجار، فجاء قائد الكتيبة ليفض الشجار (القائد شخص مسؤول عن 15 فرداً ضمن كتيبته)، وحاول أن يصلح ذات البين، لكنني بقيت على قراري بطرد ذلك الشاب من الغرفة، لأنني رأيت فيه صورة الشبيح الذي كان دوما مصدراً للأذى والخراب.

ليبيا.. الانخراط في المعارك

في الساعة السادسة صباح اليوم التالي، أتى قائد الكتيبة على عجل وتوجه قائلاً للجميع: “عليكم رفع الجاهزية التامة لمؤازرة إحدى القوات على طريق المطار”، ثم قام بتسليمنا الأسلحة والجعب العسكرية، وبعد انتظار نصف ساعة أتى أربع رجال من أهل البلد (ليبيون) وطلبوا منا أن نتبعهم لنستدل بهم على الطريق. كان بحوزة قائد الكتيبة 3 سيارات استلمها من الليبيين، إضافة إلى أجهزة لاسلكي.

بعد مسيرة استغرقت قرابة الساعة بالسيارات، وصلنا إلى منطقة مليئة بالمزارع، ترجلنا أمام إحداها ليقول لنا أحدهم أن العدو يكمن في المزرعة المقابلة للمكان الذي نقف أمامه. وهنا بدأت أولى خلافاتنا مع الليبيين عندما أراد قائد كتيبتنا اقتحام تلك المزرعة، بناء على أوامر من المدعو “فهيم عيسى” القائد الأعلى. سألته: “كيف تريدنا أن نقتحم مكاناً لا ندري عنه شيئاً، أليس هذا رمي النفس في التهلكة؟”، وهو يعلم أنني رجل عسكري لا أهاب المخاطر ولا أعرف للخوف سبيلاً، لكن التخطيط هو الأساس في عمليات من هذا النوع، خصوصاً أننا لا نعرف شيئا عن عدونا، وعن تجهيزاته وتحصيناته وأسلحته، لذلك نحن نحتاج لرأي بعض الليبيين ممن سبق لهم مجابهة هذا العدو.

كان في النقطة التي تمركزنا فيها، شبان سوريون آخرون يتبعون لـ”لواء المعتصم” وصلوا قبلنا بثلاثة أيام ومعهم بعض الليبيين. طلبت منهم بعض الأفراد لمساعدتنا على التخطيط للاقتحام، فالتفت إلي رجل سوري من مدينة مارع بريف حلب، وقال لي: “كنا بالأمس في تلك المزرعتين لكننا اضطررنا للانسحاب بعد اقتحامهما من قبل قوات حفتر، وقد خسرنا 18 شهيداً ما زالت جثثهم في مكانها”، لكنني أخبرته بكل وضوح أن الخطوة الأولى لأي اقتحام تبدأ بتوزيع الشبان على نقاط تمركز يميناً وشمالاً، كي نضمن عدم التفاف العدو؟ والموت عندي أهون من الوقوع في الأسر.. مع الموت تخرج الروح إلى بارئها، أما ما بعد الأسر فظلم َظلام وظلمات.

قاموا بعدها بتسليمنا عتاداً متنوعاً.. مدفع هاون 60 وحشوات قاذف RBG، وتم توزيع الشبان على مواقعهم ثم بدأنا الاقتحام.

كنا قبل عملية الاقتحام 15 شخصاً ضمن كتيبة واحدة، وفي لحظة واحدة هرب 10 منهم إلى المزارع الخلفية ولم يبق معي إلا 5 شبان، عندما اتصلت بالقائد وسألته عنهم أخبرني بكل بساطة أنهم قد ذهبوا! وطلب مني الاستمرار بالاقتحام. ليس معي إلا عدد قليل من الشبان بالإضافة إلى الليبيين الأربعة، وهذا العدد لا يكفي لاقتحام المزرعتين وبناء على ذلك نحتاج لمن يوفر لنا غطاء إذا حاول العدو الالتفاف علينا، أو أن نقوم بالانسحاب ونعود إلى مبنى الوزارة، لأن في هذا مقتلة لنا. صمت قائد الكتيبة قليلا ثم قال: “لا أجرؤ على اتخاذ قرار بالانسحاب من الموقع، خشية غضب فهيم، والحل عندي أن تجمع الشبان وتقوموا بالاقتحام كما كان مخططاً”.

أذكر أنني في لحظات ما قبل الاقتحام مازحت أحد الإخوة الليبيين قائلاً أننا لم نتناول طعاما منذ الأمس، على الأقل إذا كان الموت من نصيبنا أن لا نموت جائعين، وفعلاً تناولنا الطعام الذي أمدنا بالقوة، وقمنا بعملية الاقتحام التي انتهت بأسر 4 ليبيين من معسكر العدو واستشهاد 8 من أفراد كتيبتنا، بينهم 5 سوريين من “لواء المعتصم”.

ما أثار دهشتي واستغرابي أن الأسرى الليبيين من “الأعداء” تلقوا معاملة حسنة من قِبل من كانوا معنا، وعندما سألتهم عن السبب قالوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالأسرى، وبناء عليه فإن للأسير حقوقاً وكرامة ينبغي الحفاظ عليها، على خلاف ما سبق وعرفناه أيام الثورة السورية من جرائم شبيحة النظام.

بعد تسليم الأسرى قمنا بتفتيش المزرعة والفيلا التي تعود ملكيتها لأحد الفلسطينيين المقيمين في ليبيا، وجدت شخصاً استلقى على الأرض، بلا حراك اعتقدت في البداية أنه ميت كونه ينزف بغزارة، فقررنا نقله إلى مكان آخر كي تتم عملية الدفن، وإذ به يتنفس لبرهة قبل أن يسلم الروح.

استمرت تلك المعركة من الساعة العاشرة صباحاً حتى الساعة السادسة مساء، وكان معنا ضمن المقاتلين الليبيين أب وابنه، الأب نحيل الجسم لا يتجاوز وزنه 50 كغ، يحمل رشاش PKC وبارودة ويقاتل بكل نشاط، وابنه يقاتل على الطرف الآخر، كلاهما ملتح وأسمر البشرة ونحيل الجسم، وكل منهما يقاتل بكل شجاعة على محور من محاور القتال.

بعد نهاية المعركة جلس الأب وابنه وبدأوا تعاطي الحشيش، وسط استغرابي وذهولي عن تلك التناقضات العجيبة التي تحكمهم، من غيرة على الدين وإقامة الفرائض، تترافق مع إباحة الحشيش والحبوب المخدرة وغيرها.

بعد انتهاء تلك المعركة قام الليبيون بتسليمنا جعباً عسكرية جديدة، بدلاً من القديمة التي كانت بحوزتنا، وما لفت نظري أن الشعب الليبي يتمتع بصفات مميزة كالكرم والطيبة والأمانة والثقة بالآخرين، فإن ذهبت للتسوق فإن البائع على ثقة بأمانتك ولا مشكلة إن قمت بالدفع مباشرة أو لاحقاً، لكن مشكلتهم هي انقسامهم بين شرقي وغربي.. ذلك التصنيف، الذي تسبب في وجود النعرات فيما بينهم وباتت سبباً للخصام والفرقة والخلاف.

بعد ذلك أخبرونا بضرورة الاستعداد قبل الانتقال لاقتحام مكان آخر، لكنني رفضت أن أتحرك إلى أي مكان، خصوصاً أننا لم ننل أي قسط من الراحة بعد معركة استمرت قرابة 10 ساعات، ومن حقنا أن نحصل على يوم راحة، الأمر الذي اتفق عليه الجميع.

بناء على نتائج معركتنا الأولى وما شهدته من تحرير النقطتين، صدر الأمر بترقية فهيم عيسى قائد الكتيبة إلى قائد عسكري للفرقة بأكملها، علماً أننا نعد أصغر كتيبة من حيث تعداد أفرادها (15 شخصاً)، مقارنة بالكتائب والفصائل الأخرى التي يبلغ تعداد أفرادها 80 شخصاً أو أكثر.

بعد أن نلنا قسطاً من الراحة، وفي صباح اليوم التالي نحو الساعة 6 صباحاً، قام بعض الليبيين بزيارتنا وأخبرونا بضرورة التحرك إلى الجبهات الأمامية للسيطرة على نقاط جديدة، على أن يكون دليلنا في تلك المناطق الشاسعة شخصاً ليبياً ويدعى “فوزي”.

فوزي هذا نحيل الجسم في الخمسين من عمره، سبق وأن أطنب في مدح العقيد القذافي مرات عدة، كما ذكر أن إخوته يعملون حرساً لعائشة ابنة القذافي التي تقيم حالياً في الجزائر، مؤكداً ولاءه للقذافي متنكراً لثورة 17 فبراير الليبية، مما أصابني بالريبة والخوف.

سار بنا دليلنا فوزي مسافة 1 كم بين المزارع، إلى أن وصلنا إلى مبنى كبير، توقف أمامه قائلا أنه المبنى الأكثر تحصينا في المنطقة، وكان عبارة عن فيلا مساحتها نحو 500 متر، مؤلفة من 3 طوابق، ومؤثثة بأغلى أنواع الأثاث ومجهزة بكل أنواع التجهيزات، احتوت على الكثير من وسائل الراحة والرفاهية. توجهت عندها لفوزي بالسؤال أين العدو؟ فأجابني بأن العدو يكمن في مكان بعيد. ولكن ما إن دخلنا ذلك المكان حتى شعرنا بمن يطبق علينا، كان عدونا التابع لمليشيات حفتر قد شعر بنا وبدأ بقصفنا بقذائف الهاون.

في تلك اللحظة غادرنا فوزي قائلاً إنه سيعود بعد قليل، لكنه لم يعد إلى ذلك المكان أبداً، وفي ذلك الوقت لم نكن نملك أي تجهيزات من أي نوع، عدا بعض الأسلحة الخفيفة كالرشاشات الروسية وبعض رشاشات PKC مع أجهزة إرسال لاسلكية، وكنا نحو 15 شخصاً بالإضافة إلى 10 أشخاص من فصيل آخر، بقيادة شخص يدعى “أبو سعدو”، وهكذا تمت محاصرتنا جميعاً في ذلك المكان لمدة 4 ساعات وسط قصف كثيف بالهاون، عندها اتخذت قراري بالعودة إلى مبنى الوزارة، الذي قدرت وجوده في الخلف على اعتبار أن القصف يأتينا من الأمام، الأمر الذي استدعى التصرف على عجل.

بعد أن قطعت الشارع الأول ثم الثاني شعرت أنني قد أصبحت بمأمن من العدو، فاتصلت عبر الجهاز اللاسلكي مع قائد الكتيبة، كي ينسحبوا بهدوء ويعودوا إلى مبنى الوزارة، وهو ما تم عصر ذلك اليوم دون أن يتم أسر أي منا، لكن ما حدث أصابنا بالريبة من الجميع.

بعد ما حدث معنا كان لزاماً علينا أن نجلس ونناقش ما وصلنا إليه من حال يرثى له، طلبت من قائد كتيبتنا أن يتصل بفهيم القائد الأعلى كي يعطينا إرشادات ونقاط نسير عليها، خصوصاً بعد ما بدر من فوزي الذي تركنا وسط القصف وبادر بالهرب، وبينت له أنه من المستحيل الاستمرار وسط هذا الغموض وعدم الوضوح، حيث لم نعد نعرف العدو من الصديق.

فهيم كان متسلطاً وقذراً.. المهم أن قائد الكتيبة أخبره بما جرى من قبل الليبي فوزي وكيف هرب وسط القصف الكثيف، ورد قائلاً: “المهمة ستستمر وسوف أُرسل دليلاً آخر “.

أخبرنا المرشد الجديد أنه سوف يكون معنا في الفترة القادمة، فأخبرته عن كل ما حدث في اليوم السابق وما بدر من فوزي، أجابني عندئذ أنه سيكون معنا في عملية الاقتحام القادمة بالإضافة إلى شخصين آخرين من خيرة المقاتلين، بغية تثبيت النقط على الجبهة. كما قال إنه كان مقاتلاً سابقاً على هذه النقطة قبل أن يسيطر عليها حفتر، وقد استمرت مهمته فيها عاماً كاملاً.

تلك الليلة سهرنا حتى الرابعة فجراً واستيقظنا في السادسة صباحاً، لنقوم بالتجهيز للمعركة القادمة، ارتدينا الجعب العسكرية وجهزنا حشوات الأسلحة، ثم انطلقنا باتجاه النقاط التي قادنا إليها فوزي في اليوم السابق، توقفنا قبلها بمسافة قصيرة داخل إحدى الفيلات المنتشرة في المنطقة.. خلال النهار عاد قائد الكتيبة لمبنى الوزارة كي يأخذ قسطا من الراحة، قمت بعدها بتوزيع الشباب وقسمت المهام بيننا كي لا نخسر أحد رجالنا.

مرت على ذلك الحال 3 أيام مرت لم أعرف فيها إلا ساعتين من النوم، أصدرت تعليمات لأحد أقربائي لكي يقوم بتفتيش أحد المنازل المجاورة، وأن ينتقل إليه عن طريق فتحة في الحائط قمت بحفرها قبل وقت سابق، لكنه بدلاً من الانتقال من ذلك الطريق سلك طريقاً عبر من خلاله الشارع العام، فباغتته رصاصة قناص في قلبه قتلته على الفور.

هنا وقعت في حيرة فأنا لا أستطيع أن أسحب الشهيد خشية أن أتعرض للقنص، هنا طلب مني أحد المقاتلين أن نذهب معاً لإحضار الشهيد، فأجبته بالرفض خشية التعرض للرصاص، فقال أن الوضع في ليبيا يختلف عنه في سوريا، مكرراً عبارة “الحرب هنا محترمة” وأن القناص لا يقنص إلا لمرة واحدة، لكنني بقيت مصراً على الرفض، فما كان منه إلا أن ذهب وأحضر جثة الشهيد، مما جعلني أشعر حقاً بغرابة الحرب هنا، كم هي مختلفة عن كل ما عرفته أيام الحرب في بلادي.

بعد أسابيع طويلة من المعارك دخل شهر رمضان، ونحن في بيئة قاسية جداً وسط درجات حرارة تصل إلى 45 مئوية، فكان الصيام مع تلك الظروف قاسياً جداً.

في أحد المواقف التي حدثت معي أذكر أن أحدهم اتصل بي، وسألني: أين أنت، أخبرته أنني في المقر، فأجابني أن الأوامر قد صدرت لاستلام مناطق ونقاط قامت قوات فاغنر الروسية بإخلائها، عندما وصلنا إلى تلك النقطة انفجر لغم بأحد المقاتلين وهو شاب من اللاذقية. من المعروف أن هذه الألغام تسبب ضرراً كبيراً وقاتلاً، تتسبب معظم الأحيان باقتلاع كلتا العينين وكسر الجمجمة، ومقتل الضحية على الفور. في ذلك الوقت قمت بتسليم أغراض الشاب لآمر الكتيبة، وكان من بينها أغراض استولى عليها خلال عمليات سلب ونهب في تلك المنطقة.

كان اليوم التالي لوفاة الشاب أول أيام عيد الفطر، وبعد أن أتمت قوات فاغنر الروسية انسحابها من تلك المنطقة، صدرت إلينا الأوامر باستلام تلك المناطق وتفتيش كافة النقاط التابعة لها، وكنا نحن السوريون من بين المقاتلين الذين أبلغوا بضرورة الانتقال لمؤازرة القوات الليبية في تلك العمليات، وتم الدخول إلى تلك المناطق بطريقة فوضوية عشوائية وغير منظمة وغير منضبطة، السوريون والليبيون على حد سواء.

ذلك الشهيد كان شاباً عمره 22 عاماً يقيم في تركيا، ويعمل خياطاً وعلى وشك الزواج عندما التقى بأصدقائه الذين أخبروه عن انضمامهم لصفوف المقاتلين المتوجهين إلى ليبيا، فاتفقوا على السفر معاً وبعد 3 أيام من وصوله لقي حتفه.

بعد مقتله ساد الخوف بين المقاتلين، وبرزت فكرة أن الحرب لا ترحم، وانحصرت مهمتنا في حماية أنفسنا، لمدة أسبوع كامل لم يتغير شيء، وباءت كل محاولات العدو لاقتحام المنطقة بالفشل، وكانوا يرسلون بين الحين والآخر طائرات استطلاع صغيرة الحجم تسمى “الياسمينة”، هذه الياسمينة على درجة عالية من التقنية والتطور، ما إن ترصد حركة ما حتى يقوم العدو باستهداف الجميع، هذا بالإضافة إلى أن ميليشيات العدو (حفتر) من جنجويد وفاغنر وغيرهم، يتميزون بعقيدة قتالية مرعبة، بينما كنا نقاتل من أجل مبلغ ألفي دولار، ولا يهمنا إن انتصرنا أو لا، كما أنهم مدربون ومتمرسون وتتراوح رواتبهم بين 2000 و7000 دولار شهريا لمقاتلي فاغنر، و3000 دولار لمقاتلي الجنجويد.

أمر أخر أود أن أتكلم عنه ألا وهو الخوف، الخوف لدى المقاتلين الذين كانوا معنا، فالأشخاص الذين عرفناهم شجعاناً في سوريا، كانوا جبناء في ليبيا، قاموا بالانسحاب والهرب وحاولوا تجنب القتال عدة مرات، كما كانوا يرفضون القيام بالمرابطة والمراقبة معنا في النقطة التي استولينا عليها، وكانوا عندما يشعرون بحركة ما بين أشجار النخيل، يرفضون القيام بالبحث والتحري عنها، رغم إدمانهم على الحبوب المخدرة التي تعطي متعاطيها بعض الشجاعة والقوة، حتى وإن كانتا زائفتين، مما أوصلني لقناعة أن مخاوفهم تلك قد يكون سببها الرئيسي إما خوفهم مما قد يحدث لهم إن ماتوا أو أسروا، أو خشية منهم على حياتهم وأملهم بالعودة إلى عائلاتهم مع بعض المال.

بعد خلافات عميقة مع آمر الكتيبة، عدت إلى سوريا بعد أن قضيت 6 شهور كاملة في ليبيا، التي وصلتها في مطلع العام وغادرتها في منتصفه.

أحداث جديرة بالذكر

في إحدى المرات استقبلنا عدداً من المقاتلين الجدد من صغار السن تراوحت أعمارهم بين 18 و20 عاماً على الأكثر، لم يشهدوا جبهات القتال قط، وكانوا عندما يحين موعد مناوبتهم يتصلون عبر قبضة اللاسلكي: “شهاب ٢٢ شهاب ٢٢ للضرورة، نحتاج مؤازرة”. فأقوم بالانتقال إليهم وأقوم بمسح وتمشيط المكان دون أن أرى شيئاً، لأكتشف لاحقاً أنهم ولشدة خوفهم كانوا يعتقدون أن الحشرات الصغيرة التي تطير أمام كاميرا المراقبة عدواً!

تكرر الأمر بعد ذلك مرات عدة. مما جعلني لاحقاً أصدر تعميماً على الجميع بأن لا يطلبني أحدهم للمؤازرة، وبالمقابل أن لا يؤازرني أحدهم… أشعر بالألم أحياناً عندما أتذكر كل ذلك لأنني أشعر أن تصرفي ذاك قد حمل في طياته كثيراً من الأنانية، بدلاً من تقبل فكرة أنهم صغار السن ويحتاجون إلى أن يشعروا بالأمان بدلاً من الخوف خصوصاً أن هذه تجربتهم الأولى على الجبهات.

كما شهدت على خيانة إحدى مجموعات المقاتلين السوريين، عندما انتبهت إلى أنهم وخلال فترة طويلة لم يطلقوا ولا رصاصة واحدة على العدو، حتى مع تقدم قوات حفتر باتجاهنا، واشتباكنا معهم بشتى أنواع الأسلحة، الأمر الذي أثار استغرابي وأدى البحث والتدقيق في هذا الاتجاه إلى أنهم كانوا عن طريق مرافقيهم من الليبيين على تواصل مع قوات حفتر، وأنهم قبضوا مبلغ 100 ألف دولار مقابل عدم مشاركتهم في المعارك.

من بين الأشياء المقززة التي رأيتها في بعض المقاتلين، استهتارهم بمنازل وأملاك ومقتنيات الآخرين، ففي تلك المناطق التي شهدت جبهات القتال وكثيراً من الاشتباكات، كانت المنازل خاوية، غادرها سكانها سريعاً، وتركوا خلفهم بيوتهم بما فيها، فما كان من المقاتلين إلا أن اقتحموا تلك المنازل، وعاثوا فيها فساداً، لدرجة أن أحدهم كان يقوم بالسطو على أغراض المنزل ليقوم باستعمالها مرة واحدة فقط قبل أن يتلفها ويرميها، الأمر الذي جعلني ألومهم على ذلك، فكانت إجابتهم وأنت ما شأنك حتى تتدخل بما لا يعنيك؟

كثير منا قام بشتى أنواع السرقة والنهب والتخريب والأذى المتعمد لكل شيء، وفي كل مكان، علماً أن أصحاب تلك المنازل عندما سمعوا عن تحرير مناطقهم ومنازلهم، قاموا سريعا بالعودة إليها، ففوجئوا بالخراب والدمار والحال الذي آلت إليه بيوتهم، لكنهم ومع ذلك لم يقوموا بأي شيء تجاه هذا الأذى الذي سببه عدد كبير من المقاتلين السوريين، بل على العكس كانوا يشكرونهم على مساعدتهم في تحرير تلك المناطق من قوات حفتر.

وكنت أشعر بالخزي والعار من كل ما قاموا به، خصوصا عندما سألني أحد الليبيين: هل كانت قوات حفتر هنا؟ في منازلنا؟ فأجيبه بالنفي، ليعاود السؤال: من فعل هذا إذاً؟ فأضطر لإجابته بأنها أفعال بعض الفصائل الأخرى، ليكتفي بالقول: الله لا يوفقهم. وأكتفي بغصة تخفي مرارة وألما كبيرين.

كذبنا كثيراً، وكان من الممكن أن نبقى في تلك المنازل مع المحافظة عليها، وسيكون أصحابها من الليبيين ممتنين جداً لذلك، لكن الأذى والحقد والأنانية أوصلنا إلى هذه النتيجة، وكنت حقاً أفضل الموت على أن أعيش مع أناس يحملون هذا الكم الهائل من الكراهية والحسد، لكن الظروف دفعتني للصمت مقابل حفنة من المال أسدد بها ديوني المتراكمة، وأنقذ كرامة أطفالي من الامتهان، وحفظاً من كلمات قد تحط من قدر أبيهم أمامهم، فكنت أؤنس نفسي بهذه الطريقة.

ومن الأمور التي أريد الإشارة إليها، أنه بعد أن وصلنا إلى ليبيا بشهرين، قاموا بدفع 300 دولار لكل منا، وذلك بعد إضراب بعض المقاتلين وامتناعهم عن القتال لعدم استلامهم رواتبهم، فقاموا بتسليم كل واحد منا 1800 دينار ليبي ما يعادل 300 دولار، على أن يتم استلام باقي المبلغ في سوريا، وفعلاً وصلت المبالغ بعد 20 يوماً لشخص موكل من قبل قائد الكتيبة، وكان الشرط أن لا يتم خصم أي جزء من المبلغ، لكنهم خصموا 200 ‪ دولار من كل شخص، بعد ذلك بفترة شهرين تم تسليم راتب شهرين معاً وتم اقتطاع 200 دولار من راتب كل شهر، وفي ال 3 شهور الأخيرة، امتنعوا عن تسليم الرواتب نهائيا، وعندما قمنا بمراجعة قيادة “لواء السلطان مراد” في معبر حوار كلس، قالوا لنا بأن رواتبنا قد وصلت كاملة، وأنها بيد (حميدو) الذي أثرى على حساب الناس والذي امتنع عن الدفع بداية إلى أن أخبره (فهيم) بضرورة حل هذه المشكلة قبل أن تصبح بيد الأتراك، فجمع معه بعض الأشخاص وفرض على الجميع إما القبول بمبلغ 5000 ليرة تركية بديلاً عن الرواتب، أو أنهم لن ينالوا شيئاً أبداً.

“مرتزقة بلا قيمة والتحكم بهم سهل”.. تقرير يستعرض شهادات سوريين قاتلوا في “قره باغ”

قد يعجبك ايضا