مسار آمن نحو اللامركزية الديمقراطية في سوريا

تواجه سوريا تحدٍ تاريخي بل ووجودي: فالمجتمع السوري يحتاج إلى صوغ اللامركزية كجزء من عقد اجتماعي جديد في اللحظة التي تعاني فيها مؤسساته الوطنية من هشاشة تُضاهي الانهيار، ويواجه تحديات لوحدة أراضيه وسيادته يعزز السياق الإقليمي من خطورتها. وفي مسار سوريا نحو اللامركزية، تدعو هذه الورقة  إلى اعتماد ضمانات مسبقة من خلال آليات تشاورية تشارك فيها جميع الأطراف والمكونات في حوار شامل يصل بموجبه السوريون إلى اتفاقات حول المبادئ الأساسية، ثم إلى تحديد المواصفات التقنية بالاستفادة من تجارب الدول العربية الأخرى؛ كما ترسم  خطوات ملموسة لتحقيق اللامركزية الديمقراطية.

قبل تحوّل الانتفاضة السورية إلى حرب شاملة، كان النظام السوري من أشد الأنظمة سلطوية  في العالم العربي إن لم يكن أشدها على الإطلاق، لا يضاهيه في مدى ممارساته القمعية إلا النظام العراقي في عهد صدام حسين. في حديثنا عن اللامركزية ينبغي أن نبدأ بالقول أن السلطوية لا تستقيم على الإطلاق مع اللامركزية. فالهمّ الرئيسي للحكومة السلطوية هو مد أذرع أجهزتها المخابراتية في المناطق كافة، من أجل ممارسة السيطرة الكاملة على حياة المواطنين. إذن فعملية اللامركزية التي تتطلب نقل السلطة الفعلية من المركز إلى المناطق – تصبح مستحيلة عملاً في نظام سلطوي للحكم. على أن اعتبار المركزية مرادفة للسلطوية واللامركزية مرادفة للديمقراطية هو أمر يستحق التفنيد. فبعض النظم الديمقراطية تعمل ودأبت على العمل بشكل مركزي للغاية. ربما كان المثال الأبرز والأكثر شهرة هو فرنسا (التي تأسست على نموذجها الدولة السورية) وهي الدولة التي ما زالت تراعي قدراً كبيراً من المركزية منذ أيام تكوين الدولة الأولى، قبل نحو 1000 عام. ولقد دعمت الثورة الفرنسية في 1789 الحرية والمساواة وأعلنت النظام الديمقراطي. لكن فكرة اللامركزية ذاتها تعرضت للرفض حينئذ، باسم المساواة، التي كان من المفهوم آنذاك أنها تعني التوحد والتماثل. لكن حتى فرنسا وجدت من الضرورة بمكان الاشتباك في قدر ما من اللامركزية. فمنذ مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، انخرطت الدولة الفرنسية في عملية لامركزية كان الغرض منها أساساً رفع الكفاءة الإدارية والمالية لكنها استمرت في اعتبار السياسات المبنية على الهوية مسألة خطرة على وحدة الأمة. بالرغم من ذلك فقد اضطُرت إلى تقديم تنازلات لفئة من المطالب الهوياتية، وهي الخاصة بأهال كورسيكا، إذ منحت وضعية خاصة لهذه الجزيرة تقترب من الحكم الذاتي من حيث الصلاحيات المنوطة بها.1

كذلك تجدر الإشارة إلى أن  النظم اللامركزية لا تؤدي بالضرورة إلى نظم ديمقراطية أو نظم أكثر تمتعاً بالتمثيل السياسي، والمكسيك مثال دال. فعلى الرغم من أن النظام المكسيكي كان دائماً فيدرالياً، فقد ظل النظام السياسي نظام الحزب الواحد لنحو سبعين عاماً، قبل أن تتحول الدولة إلى الديمقراطية في مطلع الألفية الجديدة.

من ثم، فإن اللامركزية والديمقراطية ليسا بالأمرين المتصلين دائماً تمام الاتصال لا يمكن الفصل بينهما. على أن النظام المركزي – وإن كان ديمقراطياً – يقلل بالضرورة وينفي أحياناً هوية بعض الفئات في المجتمع. ربما يستطيع النظام المركزي أن يكون ديمقراطياً حال كانت الهوية الوطنية متجانسة، لكن العالم مكوّن من دول يُعد فيها التجانس الاستثناء لا القاعدة. ففي المجتمعات المتنوعة، مثل الحال في أغلب دول الشرق الأوسط، أدت اللامركزية –  عند اقترانها  بالخطاب الديماغوجي الذي تتسلح به النظم السلطوية وباستخدام الوحدة الوطنية كذريعة واعتبار التدخلات الأجنبية تهديداً دائماً –   إلى الحيلولة دون التنوع وحرمان مكونات أساسية في المجتمع من الحقوق الأساسية.

تواجه سوريا تحدٍ تاريخي بل ووجودي: فالمجتمع السوري يحتاج إلى صوغ اللامركزية كجزء من عقد اجتماعي جديد في اللحظة التي تعاني فيها مؤسساته الوطنية من هشاشة تضاهي الانهيار، ويواجه تحديات لوحدة أراضيه وسيادته يعزز السياق الإقليمي المحيط من خطورتها.

ليس من السهل تصوّر استراتيجية للامركزية تصلح  للدولة السورية في ظل غياب تام لملامح نظام الحكم الذي سيقود الدولة والمجتمع في العقد المقبل، إذ أنه مهما كان مدى اللامركزية المرغوبة إلا أن مؤسسات الدولة المركزية لها دور لا غنى عنه لتفعيل وإنفاذ أية عملية تؤسس للامركزية. هناك تجارب كثيرة تشير إلى أن الدولة المركزية القوية التي تحترم سيادة القانون مطلوبة بشدة من أجل تنفيذ ناجح لعملية اللامركزية. ونظراً للواقع السوري، تحاجج هذه الورقة بأن تضمين الدستور رؤية متكاملة لشكل اللامركزية وسبل إنفاذها يشكل جزءاً لا غنى عنه من نهج إدارة مرحلة ما بعد النزاع، وفي سياق أغراض التنمية، وإن كانت هذه المسألة محفوفة بالمخاطر أيضاً. فقد أثبتت تجارب عديدة مزايا للامركزية في إدارة التنوع، من خلال توسيع نطاق صلاحيات مؤسسات الحكم المحلي. كما أن خبراء وهيئات التنمية يشيرون إلى أن مؤسسات الحكم المحلي في أطار اللامركزية ستكون قادرة على تفعيل التنمية الاقتصادية وتوفير الخدمات التي تحتاج إليها  مختلف المناطق السورية، إذ أن المسؤلين المحليين أقرب بطبيعة الحال إلى فهم شواغل واحتياجات المواطنين.

تدعو هذه الورقة إذن إلى اعتماد ضمانات مسبقة من خلال آليات تشاورية تشارك فيها جميع الأطراف والمكونات في حوار شامل يصل بموجبه السوريون إلى اتفاقات حول المبادئ الأساسية، ثم إلى تحديد المواصفات التقنية وذلك بالاستفادة من تجارب الدول العربية الأخرى.

ونظراً لحالة الضبابية التي تحف بمستقبل سوريا، فقد اخترنا معالجة الموضوع على جزئين. في الجزء الأول نستعرض النقاش حول اللامركزية بناءً على الواقع القائم للنظام السوري، في سيناريو يستعيد فيه النظام السيطرة بعد مرور تسع سنوات من الانهيار التدريجي لمؤسسات الدولة. وفي الجزء الثاني يتم استعراض الخيارات المطروحة لعملية لامركزية في سياق من التحول الديمقراطي السياسي. لا أعني بهذا أن الخيار الأول قابل للتحقق بينما يشكل الخيار الثاني نموذجاً مثالياً لمستقبل خيالي، بل على العكس تماماً فالورقة تُظهر أن الدمار اللاحق بمؤسسات الدولة هو واقع ونتيجة للنزاع وأن العنف وأشكال المقاومة الأخرى سوف تستمر، وأن السلام لا يمكن أن يحل بالبلد مع استمرار النظام السياسي الحالي. لذا يصبح الخيار الثاني ضرورة يجب أن يقوم السوريون بتعريفها بدقة وأن يستعينوا بمن يرونه مناسباً من المجتمع الدولي. ترسم الورقة أذن الخطوط العامة بالإضافة الى خطوات ملموسة لتحقيق ما نسميه باللامركزية الديمقراطية والتي سيتم وصفها لاحقاً.

اللامركزية في كنف مؤسسات الدولة المدمرة تحت حكم الأسد

يتمثل واقع الدولة السورية بعد تسع سنوات من الحرب في تعرض مؤسساتها لعملية تشظي وانهيار تدريجيين من غير المرجح أن تستطيع التعافي بالعودة إلى حالها السابق. وعلى الرغم من الانتصارات العسكرية لحكومة دمشق إلا أنها تفتقر إلى السيطرة على مواردها الوطنية الأساسية خاصة في شمال شرق البلاد، وفقدت الحد الأدنى من الثقة لدى قطاعات واسعة من المجتمع. بات معروفاً كيف اختار النظام الاعتماد بالكامل على الأجهزة العسكرية والأمنية لاستعادة السيطرة على المجتمع في وجه ثورة الشعب على طغيانه. تاريخياً ومنذ مطلع السبعينيات، قام حافظ الأسد بهندسة جهاز رقابة وقمع ثبت أنه من أعلى نظم “الحكم الأمني ” فعالية بالمنطقة، بيد أن التحدي الذي شكلته ثورة 2011 كانت أولى بوادر فشل هذه المنظومة. ففي مواجهة الثوار السلميين أصبح الهدف منع سيطرة الشعب فيزيائياً على الفضاءات العامة. وبعد عامين تقريباً، لم تعد  المنظومة القمعية قادرة على الاستمرار في العمل بصيغة النظام المركزي في مواجهة الفصائل المسلحة وانحرفت قطاعات كاملة من الجهاز لتكتسب استقلالية في العمل.  ثم زادت هذه الظاهرة مع تضاؤل الموارد المالية اللازمة للاحتفاظ بتلك القطاعات ضمن القيادة المركزية المتماسكة للنظام، حيث بدأ قادة الأفرع الأمنية المختلفة في شتى أنحاء الدولة  بالعمل بأساليب لا تختلف كثيراً عن الأساليب التي انتهجتها الفصائل المعارضة من عمليات الاختطاف والنهب كموارد للدخل من أجل التعويض عن الأجور المتدنية للمقاتلين. وبدعم أجنبي من إيران وروسيا، تنامى حجم بعض الأفرع لتصبح ميليشيات مركزية لها أجنحة وفروع في جميع الوحدات الإدارية وفي شتى أنحاء الدولة، وكفّت عن العمل تحت إشراف القيادة السورية الموحدة.

يِشكل القطاع الأمني أفضل مثال على فشل مؤسسات الدولة خلال سنوات الحرب، وعلى ضرورة إعادة بناء قدرات وتماسك المؤسسات العامة على المستوى المركزي قبل أن يصبح البدء في تنفيذ آمن لنهج اللامركزية ممكناً. السبب الأساسي في ذلك هو فقدان الدولة لاحتكارها للعنف، وهو الاحتكار الذي يحاول النظام بكل ما أوتي من قوة أن يستعيده، إذ أن هدفه في هذه المرحلة إثبات قدرته على السيطرة كهدف أساسي سابق على أية أهداف أخرى. يعتبر الأسد (ولعله محق في فهمه هذا) أن حلفاؤه سوف يحرصون على بقائه في السلطة طالما يؤمنون بقدرته على السيطرة على البلد بالرغم من كل الجرائم الغاشمة التي ارتكبها نظامه.

تنعكس أيضاً استراتيجية استعراض القوة ونشر الخوف لاسترداد السيطرة على توجهات النظام إزاء اللامركزية. رسمياً، يعتبر النظام أنه ينبغي تطبيق اللامركزية على أساس المرسوم التشريعي رقم  107 الذي آصدره في أغسطس/آب 2011، أي بعد بدء الانتفاضة بستة أشهر. ينص المرسوم على تفويض بعض المسؤوليات السياسية من المؤسسات المركزية بدمشق إلى خليط من المسؤولين المنتخبين والمعينين على مستوى الأقاليم والمحليات، إلا أنه يحفظ سلطات واسعة لكل محافظ والذي يعينه الرئيس بقرار مباشر، في حين يقدم صلاحيات جد محدودة للمؤسسات في المحافظات الـ 14. القانون إذن (والذي تم تأجيل نفاذه بعد أن اعتمده البرلمان في 2011 ) ينص على نظام لامحوري في أفضل الأحوال وليس نظاماً لامركزياً بشكل حقيقي. وعلى الرغم من أهمية الإصلاحات اللامحورية في بعض التجارب مثل المغرب،2 فالإصلاحات اللامحورية إن لم تُنفذ من قبل دولة ديمقراطية وخاضعة للمساءلة ، فإنها تتحول إلى  مجردعملية إعادة انتاج الحكم السلطوي مع توسيع نطاقه.

أما في المناطق الخاضعة للمعارضة، اختفت جميع العلاقات العمودية بين الدولة المركزية والمستويات المحلية، مع انسحاب النظام وتغيب خدماته. تولت السلطة مجالس محافظات انتخب المواطنون أعضاؤها في معظم الحالات بصفة مباشرة. وتم تطبيق نفس آلية اختيار أعضائها على مستوى المدن والبلدات والقرى. شكلت هيئات الحكم المحلي تجربة غير مسبوقة للسوريين وإحدى السمات الأساسية  للثورة، إذ قامت قطاعات كاملة من المجتمع بتنظيم حياة السكان بعيداً عن الدولة، وأعادت المجالس المحلية تشغيل جزء من البنية التحتية، وأعادت فتح المدارس وقدمت خدمات مثل الصحة والمواصلات وتوزيع الخبز، إلخ. لم تخضع الهياكل الإدارية المحلية لسلطة المعارضة السياسية، وإن قامت حكومة مؤقتة مكونة من المعارضة بإنشاء وزارة للإدارة المحلية. ومع تفشي انعدام الأمان وتولي الجماعات المحلية المسلحة حراسة المناطق التي تسيطر عليها، راحت المجالس المحلية تتخذ قراراتها على المستوى المحلي وحدها دون مرجعية. فقد نجحت إلى حد بعيد في اكتساب دعم السكان وفي تحقيق قدر من المشروعية وخضعت للمساءلة، لكن من ثم لم تتح لهم أو لشركائهم المانحين إمكانية  توصيل المؤسسات المحلية بسلطة مركزية تربط بين المؤسسات المحلية. وبعد استرداد قوات الأسد عسكرياً لأكثر من 60% من أراضي الدولة بدعم من روسيا وإيران، أصبح النظام منذ عام 2018 حريصاً على إنهاء مؤسسات الحكم المحلي المعارضة، إذ  كان لا يزال ينظر إليها على أنها مصدر تهديد لسلطته لا يقل خطورة عن أي من الجماعات المسلحة. تم اكتساح هذه المؤسسات المحلية في كافة المناطق باستثناء بعض الأراضي في الشمال الغربي التي ظلت تحت سيطرة المعارضة والشمال الشرقي تحت سيطرة الكرد من حزب الاتحاد الديمقراطي .

منذ استرداد النظام للسيطرة على الأراضي، طرأ تطوران يمكن اعتبارهما مؤشران على موقفه من اللامركزية.

التطور الأول هو الانتخابات المحلية التي نظمها في سبتمبر/أيلول 2018، واستخدمها كفرصة لتدعيم شبكات تابعة له على كافة المستويات. فقد قدّم النظام قائمة واحدة دون منافسين هي “قائمة الوحدة الوطنية”، غالبية المرشحين فيها عناصر من قدامى قيادات حزب البعث، وتم الإعلان عن فوز القائمة في أغلب المحليات.

تم إجراء الانتخابات على أساس مزيج من الأهداف الطائفية والسياسية والاقتصادية. فهي أولاً هدفت إلى كسر شوكة معاقل الثورة من خلال تقسيم المراكز الحضرية التقليدية التي كانت بمثابة حاضنات للحراك. كما تم تعديل الدوائر الانتخابية من خلال قوانين جديدة أنشئت بموجبها نحو 70 محلية جديدة، وأغلبها بمحافظات حماة وريف دمشق. ثانياً، سعت الانتخابات إلى ضمان عدم تمكن أكبر قدر ممكن من السكان السنة النازحين أثناء النزاع من العودة إلى مناطق سكنهم الأصلية. ظهر بوضوح ارتباط خطة الحكم المحلي بشكل مباشر بالقانون رقم 10 سيئ الصيت، الذي يعتبر المجالس المحلية المؤسسات الرئيسية المسؤولة عن تنفيذ القانون وقيادة عملية إعادة الإعمار.3 وهذا هدف ثالث يوضحه جوزيف ضاهر جيداً: “أصبحت عملية إعادة الإعمار وبشكل مطرد متواشجة مع شبكة معقدة من شبكات المحسوبية المتصلة بالحكم والمكوّنة من النخب السياسية والاقتصادية”.4

المؤشر الثاني تمثل في سلوك النظام أثناء المفاوضات مع الممثلين الأكراد لمنطقة الحكم الذاتي شمال شرقي سوريا. فبما أن هؤلاء يملكون قوة عسكرية لا يمكنه أن يسيطر عليها بالقوة، هدف الأسد إلى استرداد السيطرة على المنطقة، وهي الأكثر ثراءً بالموارد، من خلال المفاوضات. فقام بجذبهم إلى طاولة التفاوض، وتحدث عن تقسيم إداري جديد للأراضي، بحيث تصبح خمسة إلى سبعة أقاليم، بل واقترح حتى أنه قد يُسمح للأكراد بتحقيق أغلبية سكانية في إقليم من الأقاليم. قام حزب الاتحاد الديمقراطي،5 خوفاً من هجوم تركي كبير، بالذهاب إلى دمشق لمحاولة التوصل إلى اتفاق، لكن النظام لم يقدم أكثر من القانون 107 الذي كان أقل بكثير من مطامح الأكراد. فبات واضحاً أن التصريحات حول التغييرات الكبرى في النظام كان هدفها لا يزيد عن إرضاء روسيا (مقترح روسيا بالدستور السوري في 2016 اشتمل على مقترح بنظام شبه فيدرالي في سوريا) والدول الأوروبية التي يرغب النظام في  الحصول على تمويلها لإعادة الإعمار.

وعلى الرغم من الموقف المتشدد للنظام ولجوئه إلى القوة في التعامل مع أي تحدي لسيطرته المطلقة، بات واضحاً أن  العودة إلى الدولة شديدة المركزية كما كانت قبل 2011 أصبح مستحيلاً. لكن تحديد النموذج الأمثل لنظام اللامركزية في سوريا يمثل تحدٍ هائل. بعض النماذج الناجحة للامركزية في المنطقة تحققت في سياق الانتقال السلمي نحو حكم ديمقراطي، كما حدث في تونس، أو إصلاحات تدريجية كما حدث في المغرب (انظر أدناه). لكن في سياقات مراحل ما بعد النزاع، فإن السوابق التي نراها بالمنطقة لا تبعث على التشجيع. فالعراق يجاهد من أجل إعادة بناء دولة متماسكة بجهاز أمني واقتصادي سليم، والمنطقة الكردية تتهيأ للانفصال حالما تأتيها فرصة جديدة. واليمن سعى إلى إصدار قانون تم تجهيزه على عجلة لإنشاء نظام فيدرالي، قبل أن يتحول الوضع هناك إلى نزاع مفتوح في 2014. ولا تقوم القوى الخارجية دائماً بتقديم المشورة الجيدة، إذ أن أغلب العاملين في تسوية النزاعات يميلون إلى فرض تصوراتهم حول شكل الدولة على دول لها تاريخ مختلف، ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى تعقيد المشكلات القائمة الخاصة بترتيبات تشارك السلطة، مفترضين أن مزيد من اللامركزية من شأنه أن يحل مشكلة انعدام الثقة بين الأهالي من خلال الحد من الاحتكاك فيما بينهم.

اللامركزية الديمقراطية لسوريا في مرحلة ما بعد النزاع

عانى السوريون كثيراً على مدار سنوات النزاع من تعريف ملتوي لأسباب الحرب. فالغالبية العظمى منهم – بما يشمل الموالين للنظام – مستمرون في تعريف النزاع على أنه انتفاضة ضد نظام سياسي سلطوي، لا نزاع أهلي، وهم مرتابون للغاية من نموذج تشارك السلطة بناء على محاصصة على أسس طائفية وقومية كما في لبنان أو العراق. كما يشتبهون في أن الفيدرالية تمثل وصفة للتقسيم، أما اللامركزية فيرونها  مقبولة لأنه يمكن تحقيقها في إطار دولة موحدة.

الاستثناء الملحوظ هنا هم الأكراد، الذين كابدوا الاضطهاد والإنكار لحقوقهم الأساسية على مدار تاريخهم. لقد أصبحت مطالبتهم بالنظام الفيدرالي بمثابة اختبار لقياس التزام السوريين الآخرين بالنظام الديمقراطي القادر على استيعاب الأقليات.6 لكن حتى بعض الأكراد (من يحكمون إدارة الحكم الذاتي) يعتبرون أن رسم حدود إدارية جديدة على أسس قومية وطائفية غير مناسب لسوريا بسبب التوزيع الجغرافي للتجمعات السكانية في سوريا. فعلى االعكس من العراق، لا توجد أراضي متجانسة سكانياً، باستثناء ربما منطقة يتجمع فيها تاريخياً السكان الدروز (مع العلم أنه توجد بعض الجيوب الدرزية في مختلف مناطق سوريا) كما لا يمكن التمييز بين مركز متجانس مثلاً وأطراف مختلطة. قد تستغرب القوى الأجنبية أنه إذا سُمح للسوريين فعلاً بتقرير مصيرهم، فالمرجح أنهم سيبحثون عن سبل أخرى لإدارة حالة التنوع في مجتمعهم.

ما نصفه أدناه إذن هو عملية تغيير للنظام الإداري للدولة تم تعريفه باللامركزية الديمقراطية قد تمثل حلاً بديلاً يلتف حوله أغلب السوريين وهو الحل القادر أيضاً على استيعاب تطلعات الكرد السوريين ومطالبهم.

أظهر استطلاع رأي تم مؤخراً في سوريا أن رأي السوريين في اللامركزية يعكس التفاعل المعقد بين الاعتبارات الطائفية والسياسية.7 فالمكون العلوي على سبيل المثال هو الأشد رفضاً للامركزية نظراً للدور المهيمن للطائفة العلوية في أركان النظام، فقد كان ذلك المكون  حريصاً دائماً على إظهار الروح الوطنية كمصدر رئيسي لمشروعية حكمه. ومن المؤشرات المدهشة أن النظام يتشارك في هذا التمسك الدوغمائي بالمركزية مع جزء من المعارضة، لا سيما القوميين البعثيين المعارضين.

جاء عهد بشار الأسد ليجعل من  السيطرة على الموارد الاقتصادية واحتكار العائلة ومن يدوروا في فلك السلطة في دمشق لها مسألة محورية.  هكذا نظام لا يواتيه  نظام لامركزي. يتطرق الباحث جهاد يازجي لهذا الجانب بقدر من التفصيل، إذ قال: “يخشى المجتمع العلوي أنه ما إن تبدأ السلطة الرسمية في التسرب إلى خارج دمشق، فسوف ينهار السد ما سيؤدي إلى انهيار النظام”.8 والواقع أن النخب المرتبطة بالنظام تنحدر من طوائف عديدة، فهناك الكثير من أبناء الطائفة السنية، لكنهم لا يعنيهم كثيراً شأن السنة الأفقر الذين يعيشون في ضواحي المدن الكبرى وبالمناطق الريفية.

وعلى امتداد النزاع ومع جفاف موارد الدولة تدريجياً، أصبحت المساعدات الإنسانية التي تمر عبر القنوات الحكومية هي المصدر الرئيسي لقليل من الربح والذي يدعم بقاء النظام. فهو الآن يسعى بشتى الوسائل إلى جلب أموال إعادة الإعمار، كمورد لتمويل نفسه من جديد، أملاً في الاحتفاظ بمؤسسات السلطة بتركيبتها القائمة دون تغيير.

لقد دخلت سوريا عامها التاسع من النزاع، ويعتقد النظام السوري أنه ربح الحرب. وهو يتصرف وكأنه قادر على الاستمرار في الحكم مع إجراء تعديلات تجميلية طفيفة، أما حلفاءه الروس والإيرانيون فهم يعتبرون أنفسهم منتصرين، بينما تعترف القوى الأخرى بأن المعادلة السياسية اللازمة لإعادة تركيب المجتمع السوري تحتاج إلى تعديل جوهري على أسس جديدة. ونظراً لضعف السوريين على الطرفين، فإن تحكمهم بعملية المفاوضات من أجل إنتاج نموذج اللامركزية المنشود سيكون محفوفاً بالتحديات. ألمانيا واليابان كانتا القوتين المهزومتين في الحرب العالمية الثانية وتم تحديد شكل الدولة في الحالتين من قبل الدول المنتصرة، لذلك خشية السوريين من أن يتم تقرير مصير بلدهم من قبل الدول المنتصرة أمر مشروع.

اللامركزية بضمانات

في معرض التصدي لمسألة اللامركزية ينبغي التمييز بين صنفين من التحديات: التحدي الأول هو سؤال “ماذا”: أي الاتفاق على الهدف الرئيس لطبيعة النظام اللامركزي من أجل تضمينه في الدستور الجديد والسؤال الثاني هو “كيف”، ونقصد هنا تصميم وتنفيذ مسار آمن لبلوغ هذا الهدف. ينطوي هذا على ثلاث عمليات تبدأ كل منها بانتهاء السابقة عليها: أولاً: الاتفاق على المبادئ العامة؛ ثانياً: تعريف النموذج التفصيلي للامركزية؛ ثالثاً: وضع الأدوات والضمانات اللازمة لضمان تنفيذ ما تم الاتفاق عليه. سوف يحتاج السوريون إلى الاستعانة بتجارب الدول الأخرى، للحد من المخاطر، أثناء تطوير وتنفيذ نموذج اللامركزية الخاص بهم.

المبادئ التوجيهية

تظهر التجربة التونسية أنه كلما زادت دقة النص الدستوري حول اللامركزية، كان أفضل. النصّ التفصيلي المكفول في الدستور لا يترك سلطة تصرف كبيرة للحُكام والمشرعين ويحمي صلاحيات السلطات المحلية. نتيجة لهذا، يصبح للسلطات المحلية وجود قانوني قائم بذاته يصعب على الحكومة المركزية أن تقلص منه. فالدستور التونسي الذي تم صياغته عام 2014 يحتوي على ما لا يقل عن 12 مادة حول اللامركزية، و10% تقريباً من النصّ الدستوري مخصص للامركزية. 9

بالنسبة إلى سوريا، قد يكون من المفيد الاتفاق على مجموعة من المبادئ، في مرحلة مبكرة من لقاءات اللجنة الدستورية، لتوجيه عملية صياغة القسم الخاص باللامركزية من الدستور إذ سيمهد ذلك الطريق أمام إعداد استراتيجية كاملة فيما بعد. يمكن اتباع نموذج الوثيقة المعنونة “المبادئ الـ 12” الخاصة بالسمات الدائمة لسوريا الجديدة، التي اتفق عليها المفاوضون السوريون في جنيف عام 2017. هذا الاتفاق المبدئي يضع إطاراً للتفاوض من شأنه أن يطمئن الأطراف، ونعني هنا بشكل أساسي الأغلبية العربية والكرد، حول الحقوق الأساسية للأكراد وضمان وحدة الأراضي السورية بالنسبة للعرب.

المبادئ الأساسية للامركزية كانت محور حوارات عديدة بين السوريين، وتم صوغها في عدد من المسودات. وظهر مفهوم “اللامركزية الديمقراطية” المبهم عمداً، في مؤتمر في القاهرة عام 2012، كعنوان مقبول يسمح للسوريين بالتفاوض على مضمون للامركزية مرتكزين إلى بعض القواعد التي أثبتت أهميتها في حالات أخرى، منها:

  • أنه كلما كانت الضمانات المقدمة على المستوى المركزي إلى جميع المكونات قوية، كلما تعزز الإحساس بالانتماء إلى المجتمع ككل على المستوى الوطني، ويصاحب هذا تراجع النزعة الانفصالية عند بعض المكونات. وهذا ينطبق بشكل خاص على الكرد.
  • أن حيادية الدولة تجاه الأديان والقوميات والطوائف: الأكراد والعلويين في سوريا يعارضون أي مرجع وطني (في حالة الأكراد) أو ديني (في حالة العلويين والأكراد معاً) في تعريف الدولة السورية. إذا كانت الأغلبية العربية توافق على التخلي عن الإشارة إلى الهوية العربية في اسم الدولة الرسمي ليصبح الجمهورية السورية، والتأكيد على حيادية الدولة إزاء جميع الأديان والأعراق، فإن ذلك سيحد من خطر السعي إلى الانفصال.
  • أن الاحترام الفعلي لمبدأ المساواة في الحقوق يتطلب إنشاء فضاء مدني وإقرار قوانين تكفل حق أي مواطن، رجلا ً أو امرأة، باللجوء إلى القانون المدني بدلاً عن قانون الأحوال الشخصية الخاص بالمذهب أو الطائفة للمواطن، إذا اختار ذلك.
  • إضافة إلى ضمان الحقوق الفردية للمواطن، فالدستور يجب أن ينص على مواد تضمن الحقوق الجماعية للمكونات المجتمعية.
  • قد يتفق السوريون على إعادة ترسيم الوحدات الإدارية وتغيير تقسيم المحافظات إلا أنه ينبغي أن يتم ذلك بناءً على اعتبارات جغرافية (وليس بناءً على العرق أو الدين) وبالاستعانة بمعايير تتصل بالتوزيع العادل للموارد الطبيعية والتنمية المتوازنة والعادلة.
  • أن يتم تشكيل المجالس المحلية بالانتخاب، كي تتمتع بمشروعية شعبية قائمة بذاتها. هذا من حيث التعريف يعد شكلاً من أشكال اللامركزية السياسية، إذ يشتمل على سياسة الانتخابات على المستوى المحلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الدولة الديمقراطية التونسية الجديدة لم تتورع عن تسمية نظامها الإداري الجديد باللامركزية السياسية.
  • فيما يخص الأمن، فالمهام الأمنية يجب أن تُوزّع على المستوى اللامركزي، أي أن يتم إنشاء وإدارة الشرطة المحلية بقدر من الاستقلال، على أن تكون جميع قوات الأمن والجيش خاضعة لقانون وطني واحد ولسلطة عليا واحدة.
  • تبعات النزاع والنزوح على نطاق واسع لسكان مناطق بأكملها يتطلب إنشاء هيئة انتقالية خاصة تتعاون مع الهيئات المحلية في كل منطقة لإدارة المشاكل المتعلقة بالعودة واستلاب الممتلكات وحقوق الملكية المعقدة. في حين أن هذه الأمور تندرج عادة ضمن أعمال برامج العدالة الانتقالية، فلابد من أن تكون خاضعة للمحاسبة بالكامل، وأن تكون جزءاً من المفاوضات على اللامركزية بما أنه من المتوقع أن  تشكل مصدر لملايين القضايا الخلافية.
  • يُرجح أن تحتاج سوريا إلى صوغ مواد قانونية خاصة للحد من تدخل دول الجوار والجماعات بدول الجوار في سياستها الداخلية، من خلال بعض التيارات السياسية. لذا فقد تحتاج سوريا إلى تضمين مادة في الدستور تحظر على أي حزب سياسي سوري الاحتفاظ بروابط تنظيمية أو مالية بأية جماعات خارجية. قد يصعب حظر الانتماءات الأيديولوجية المتصلة بجهات خارجية (مثل الصلات الأيديولوجية بين حزب الاتحاد الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني التركي، أو الإخوان المسلمين الذين يعرفون أنفسهم بصفتهم مجموعة فرعية من حركة أكبر).

التحديات خلال عملية التطبيق

بعد الاتفاق على الرؤية ستحتاج عملية تطبيق المتفق عليه  إلى بعض الضوابط ووضع قواعد اجرائية ومن المحبذ أن يتضمنها الدستورأيضاً إذ سيسمح ذلك  بالتصدي لهواجس  لدى العديد من السوريين ويتيح المجال لصياغة التشريعات السليمة فيما بعد. أخذاً مرة أخرى بالتجربة التونسية فقد اعتمد التونسيون قواعد ناظمة ومنها:

  • مبدأ الوصاية والذي يضمن وحدة الدولة إذ يكفل للحكومة المركزية درجة من السيطرة لضمان ألا تتحول تجربة  حوكمة محلية إلى مشروع انفصالي. ، تنص المادة 138 من الدستور التونسي على أن السلطات المحلية تخضع لعملية مراجعة لاحقة لتحديد مشروعية أفعالها. يعني هذا أن تمارس الحكومة المركزية رقابة على الهيئة الحكومية المحلية بعد اتخاذها لقرارها، والمراقب هنا هو القاضي الإداري، ويمارس مهمته تلك بطلب من ممثل عن الدولة.
  • يتصل بالشأن السوري أيضاً مبدأ الوفاق الذي اعتمدته تونس، وبموجبه يجب أن يساير أي تفويض للسلطة إلى المستوى المحلي، تفويض بالموارد المالية وإيتاح الميزانية التي تسمح للسلطات المحلية بممارسة السلطة المفوضة إليها. وصفت كل من المغرب وتونس تفويض السلطة والمسؤوليات لكل مستوى حكم محلي هذا (جهة، مدينة، منطقة) وعرّفت نظاماً مالياً لضمان تخصيص الميزانية لكل مستوى من المستويات. فالحكومة المغربية مثلاً تخصص 5% من إجمالي ضريبة الدخل التي تجبيها لصالح السلطات المحلية.
  • هناك ضمانة أخرى لوحدة الدولة تتمثل في إنشاء بنى جديدة على المستوى الوطني تكون مكلفة تحديداً بإدارة عملية نقل الموارد المالية الى المحليات والإشراف على احترام الصلاحيات والمسؤوليات المحلية. هذه المؤسسات الجديدة يجب أن يتم إنشاؤها بموجب الدستور، وألا تخضع لسلطة الجهاز التنفيذي أو التشريعي في الدولة. وتتولى مسؤولية ضمان وجود تصور كامل عن النظام غير الممركز وعمله بشكل متوازن، كي لا تترك مناطق مهمشة أو تتعرض للإجحاف. ينص الدستور التونسي على إنشاء عدة مؤسسات جديدة لها هذه الوضعية، واثنتان منها مخصصتان تحديداً للامركزية. فهناك المجلس الأعلى للجماعات المحلية (ومركزه خارج العاصمة في إحدى الجهات)، وهناك السلطة العليا للشؤون المالية المحلية. إضافة إلى هاتين المؤسستين الدستوريتين، فهناك سلطة ثالثة مؤقتة تدعى “الهيئة العامة للاستشراف ومرافقة المسار اللامركزي” تم تشكيلها على أن تعمل على الأقل حتى إتمام تنفيذ مخطط اللامركزية.
  • أخيراً، يعد البرلمان المكون من غرفتين، من مجلس شعب ومجلس شيوخ (أوشورى) سمة مشتركة في الدول اللامركزية، لا سيما التي تتسم مجتمعاتها بالتعددية الطائفية والقومية. من أهم الأدوار للغرفة الثانية ضمان التمثيل العادل لمختلف المكونات في المجتمع وتجنب أن يؤدي حكم الأغلبية إلى الإجحاف في تمثيل أي مكون مهما كانت نسبته في المجتمع. وتُظهر الحوارات بين السوريين وجود توافق واسع على مبدأ وجود هيئة تشريعية من غرفتين في النظام السياسي الجديد للبلاد.

تؤدي عملية اللامركزية بطبيعة الحال إلى تغيرات لا يمكن توقعها. وفي تونس، فإن مبدأ الوصاية على سبيل المثال قد أدى إلى إعادة تنظيم القضاء الإداري وإنشاء محاكم إدارية جهوية. ومع صياغة الدستور الجديد أدرك التونسيون مدى تعقيد عملية اللامركزية واتفقوا على مبدأ التدرج في التطبيق. فقد تم اعتماد خطة خماسية تحدد الأهداف والتدابير قصيرة ومتوسطة الأجل تمت الموافقة عليها من قبل البرلمان، وقد جرى تفعيلها عبر قانون توجيهي ويجري تقييمها سنوياً من قبل المشرعين والمجلس الأعلى للجماعات المحلية.

لا شك أن الوضع في سوريا يتسم بتعقيدات ناتجة عن سنوات النزاع الثماني لم تعيشها الدول التي ذكرناها. فسوف تحتاج سوريا أثناء مرحلة تنفيذ خطة اللامركزية إلى إنشاء عدد من اللجان المتخصصة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر:

  • لجنة لإعادة تحديد التقسيم الإداري للدولة
  • لجنة لإدارة الشؤون الاقتصادية والمالية والموارد الطبيعية
  • لجان محلية مشكلة من خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني في كل منطقة من المناطق، تتعامل مع النزوح وحل النزاعات الناتجة عن التلاعب بالممتلكات وتنصف من تم سلب أملاكه
  • أخيراً وليس آخراً، لجنة خاصة بالقضايا الأمنية

نقوم هنا بوصف اللجنة الأخيرة بقدر من التفصيل أدناه، بما أنها ربما تمثل أكبر تحدي على الإطلاق لووحدة الآراضي السورية واستعادة السيادة الوطنية.

اللامركزية في القطاع الآمني

أولاً وقبل أي أمر آخر، سوف تتطلب خطة للامركزية في سوريا إعادة بناء قطاع أمني متماسك، بدءاً بقيادة الجيش الوطني والأجهزة الأمنية في المركز أي في دمشق. ثانياً، لابد من ضمان أن روسيا وإيران وتركيا – أقوى الأطراف الأجنبية على المسرح السوري – لن تعيق هذه العملية بل ستعمل على تيسيرها.

يتطلب هذا الأمر حد أدنى من الوفاق بين السوريين والأطراف الخارجية الفاعلة حول أهم الأهداف المطروحة على أجندة الأمن الوطني. فعلى مدار عقود، راح السوريون يسمعون خطاباً أجوف حول الأمن الوطني، في حين تم تصميم وتنظيم قطاع الأمن لحماية النظام من الشعب نفسه. ساد إجماع بين السوريين  لعقود طويلة حول ضرورة الاستعداد لمواجهة  اسرائيل بصفتها العدو الأكبر، وهو إجماع مشروع نظراً لاحتلال إسرائيل لأراضي سورية، إلا أنه استُخدم من قبل النظام كحجة جاهزة لمنع أي نقاش حول أولويات أخرى.

لذا فإن العمل على بناء رؤية وطنية جامعة حول الأمن الوطني وأخطر مصادر التهديد له يشكل نقطة انظلاق في سياق مرحلة ما بعد النزاع. هناك قوات أجنبية على الأراضي السورية حالياً يسهل تعريفها مثل إيران وتركيا وروسيا أو تحديد الأطراف الإقليمية الأخرى التي تعتمد عليها في التسليح والتمويل، إلا أن هناك أيضاً مجموعات متطرفة وغيرها إجرامية بحتة، بعضها يزعم أنه إلى صف النظام وبعضها الآخر إلى صف المعارضة، سوف تحتاج للمواجهة عبر خطة وطنية يتم تصميمها على المستوى المركزي، على أن تدمج الخطة أدوات استخباراتية معلوماتية وأدوات عسكرية. وفي هذا السياق لابد من العمل على حفاظ أكبر قدر ممكن من القدرات الاستخباراتية والمعلوماتية على المستوى المركزي – كما أوصى بعض الخبراء، عن حق – إذ تشكل هذه المعلومات العمود الفقري لاستراتيجية وطنية من أجل الحفاظ على أمن وسلامة الدولة الموحدة. ومع ضرورة الاستمرار في جهود مكافحة الإرهاب لفترة يصعب تحديد مدتها، فسوف تحتاج سوريا إلى تعاون وثيق مع الوكالات الاستخباراتية الدولية.

قد يصعب في هذه الحالة ترك تمكين قوات أمن محلية إلى مرحلة لاحقة. فالقدرات العسكرية القائمة في أوساط بعض تلك القوات – لا سيما قوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الكرد، والميليشيات الطائفية في المنطقة الساحلية ذات القدرات الهائلة، وبعض المجموعات في الشمال الغربي – تجعل من الصعب تصور عملية تسلسلية تستعيد أثناءها مؤسسات الأمن المركزية للدولة السيطرة وتنزع أسلحة جميع الفصائل في مرحلة أولى، ومن ثم  تمنح سلطة معينة لقوات محلية بموجب خطة اللامركزية. من ناحية أخرى، فإن التجربة الليبية في تنظيم العملية الانتقالية على الصعيد السياسي دون المساس بقدرات الميليشيات أثبتت فشلها وتشكل تحذيراً للسوريين. سوف تحتاج سوريا إلى تصميم نموذجها الخاص وذلك بالسعي الى الموازنة بين مقتضيات نزع الأسلحة والإدماج لبعض المقاتلين في صفوف القوات المسلحة وقوات الأمن المركزية، مع  إبقاء مستوى معين من القدرات على المستوى المحلي لتفي ببعض المهام الأمنية المتفق عليها مع السلطة المركزية. من المرجح أن يقتضي الأمر إبرام قانون عام بعد ااتفاق جميع السوريين على المستوى المنشود من اللامركزية.

الختام

من المتوقع أن تشكل عملية اللامركزية في سياق ما بعد النزاع مساراً محفوفاً بالتحديات بالنسبة للسوريين على مدار العقد القادم. هل ستتاح لهم فرصة لإنجاز وتنفيذ خارطة طريق في إطار انتقال ديمقراطي حقيقي وهل سيستطيعون التحكم بالعملية والحد من تدخلات القوى الخارجية؟ هل سيجدون قدراً كافياً من الإجماع فيما بينهم بما يُرضي المكونات المختلفة في سوريا ويقنع الكرد تحديداً بإمكانية إرضاء تطلعاتهم  في إطار سوريا الموحدة كحل أفضل لهم في ظل المعادلة الإقليمية القائمة؟

حتى وقت كتابة هذه السطور، كانت العملية السياسية التي صممتها الأمم المتحدة تعطي الأولوية للدستور في للمفاوضات. وسواء ظلت هذه المقاربة من قبل الأمم المتحدة قائمة أم لا، فإن المفاوضات على شكل التنظيم الإداري للدولة السورية الجديدة يرجح أن تفرض تفسها في مرحلة مبكرة، وربما بالتوازي مع التفاوض على طبيعة النظام السياسي. إن اللامركزية من شإنها أن تؤثرعلى جميع مجالات الحياة العامة، الإدارية والمالية والأمنية والاقتصادية والتعليمية والثقافية وفي كيفية المشاركة والتمثيل السياسي.

إذا توافق المفاوضون السوريون على اللامركزية الديمقراطية كعنوان يتم بعد ذلك تحديد تفاصيلها، فمن المستحسن أن يعملوا على تضمين حزمة من البنود حول اللامركزية في الدستور، بما يؤدي إلى رسم الشكل العام للنظام الجديد وتعريف كيفية توزيع السلطة – بقدر من التفصيل – بين السلطات المركزية والمحلية مع تحديد الآلية التي سيتم بموجبها نقل الصلاحيات والمسؤوليات من المركز إلى المناطق.

واقع سوريا اليوم أليم فالدولة محطمة وقد فقدت سيادتها لكن مواطنيها بمختلف أطيافهم يتطلعون جميعهم إلى إرساء مواطنة ديمقراطية يتمتع بها جميع السوريين. كل ما عاشوه على مدار السنوات الخمسين الأخيرة كان الإفساد الممنهج للمبادئ الأساسية المتعلقة بنظام اجتماعي وسياسي سليم. بعد التجربة الطويلة  لحكم شديد المركزية ، فإن الانتقال الى نظام  لامركزي ناجح سوف يحتاج إلى جهود على مدى طويل يتم أثناءه تغييرعميق على مستوى الثقافة السياسية  وعقلية المواطنين بما فيهم النخبة، وهذا بدوره يتطلب تكييف المناهج التعليمية، وبدء برامج ثقافية وإعلامية مختلفة. إنها عملية محفوفة بالمخاطر، لكنها تشكل أفضل مدخل لإعادة تعريف المعادلة السياسية السورية بعد تدميرها والتي ستسمح لكافة السوريين باسترداد هويتهم الوطنية الجامعة.

منشورات مبادرة الاصلاح العربي ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا