مستقبل “هيئة تحرير الشام”: التبدلات في سبيل القبول

جسر: خاص:

بدأت “هيئة تحرير الشام”، منذ إعلانها في 28 تموز/يوليو 2016 عن تغيير اسمها من “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام”، وفك ارتباطها بتنظيم “القاعدة”، بإظهار مرونتها ومخاطبة الأطراف الفاعلة في المسألة السورية، والتأكيد على أهمية وجودها في المنطقة، وشهدت منذ ذلك التاريخ وحتى إعداد هذا التقرير الكثير من التحولات على المستوى التنظيمي، منها على سبيل المثال تشكيل “العصائب الحمراء” القوة الهجومية الضاربة والأقوى، ورأس الهرم من بين التقسيمات الإدارية العسكرية فيها؛ وعلى مستوى التحولات في الموقف السياسي في القضايا والمنعطفات التي تخص المنطقة وأبرزها مؤتمر أستانة واتفاقيات خفض التصعيد، والاتفاقيات السياسية الأخرى، والتدخل العسكري التركي في سوريا في كافة مراحله وأشكاله، وتعاملت “الهيئة” مع تلك القضايا وفق سياسة براغماتية بحتة، تبناها التنظيم الذي لجأ في مواقفه إلى السكوت أو الرفض العلني ثم الرضى العملي بما تم رفضه.

يمكن القول أن هذه السياسة لقيت قبولا لدى أبرز الفاعلين على الساحة السورية، على الرغم من أن “الهيئة” شهدت في الآونة الأخيرة جملة من الأحداث الداخلية لعل أبرزها استقالة بسام صهيون وأبو مالك التلي ومن ثم عودة اﻷخير إلى صفوفها، كما تراجعت عن فتح معبر تجاري مع النظام نزولا عند الضغط الشعبي الرافض لذلك، وهي نفسها التي اقتحمت مدينة كفرتخاريم في العام الماضي رغم الرفض الشعبي آنذاك، وليس آخرا بإعلانها تشكيل ثلاثة ألوية في جناحها العسكري بما يتماشى مع تشكيل الجيوش الحديثة.

إشارات القبول بها دوليا

من الممكن القول أن تلك التحولات والتبدلات كان لها صدى وضعته “الهيئة” في حساباتها بما يخص الجهات المستهدفة، دلل عليه بوضوح تحول الموقف الأمريكي منها، والذي انعكس في تصريحات المسؤولين الأمريكيين حولها، فقد صرح جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا أن “هيئة تحرير الشام تركز على قتال نظام الأسد ولم يُشهد لها تهديد على المستوى الدولي منذ فترة من الزمن، وأنها تُعرِّف عن نفسها بأنها تمثل مجموعة معارضة وطنية لنظام الأسد تضم مقاتلين وليس إرهابيين” معبرا عن عدم القبول بهذا الوصف بعد. هذا الأمر أثار حفيظة روسيا واتهمت على لسان وزير خارجيتها “سيرغي لافروف” واشنطن بالسعي إلى إخراج “هيئة تحرير الشام” من لائحة التنظيمات الإرهابية وجعلها طرفاً في المحادثات حول الأزمة السورية.

كما أشار الجولاني في حوار مع “مجموعة الأزمات الدولية” إلى أنه تعهد بعدم استخدام سورية من قبل “الهيئة” أو أي فصيل آخر، كمنصة إطلاق للعمليات الخارجية، والتركيز على قتال نظام الأسد وحلفاؤه.

نقاط القوة التي تمتلكها “الهيئة”

اتبعت “هيئة تحرير الشام” سياسة بناء القوة العسكرية المؤثرة في مناطق تواجدها من خلال مركزية القرار والتحرك العسكري، وبات عدد مقاتليها يتجاوز 40 ألف مقاتل اليوم، لا يمكن للأطراف المحلية أو الخارجية تجاهلهم، واستطاعت من خلال ذلك مواجهة اختبارات مفصلية.

كما تمتلك “الهيئة” المشروع الإداري والاقتصادي الخاص بها، وتَمثل في الإدارة المدنية التي أعلنت عنها في شهر آب/أغسطس 2017، ووصلت إلى تشكيل حكومة الإنقاذ من قبل شخصيات مرتبطة بها، ويُعتبر أهم عناصر سيطرة حكومة الإنقاذ؛ قدرتها على توفير الغاز والتحكم بالمعابر الداخلية مع النظام، والخارجية مع تركيا، وأبرزها معبر باب الهوى، وصيانة وتوفير خدمات المياه للمنازل، حتى أنها استحوذت على أي تمويل أو دعم مستقل يأتي للمجالس لمنعهم من امتلاك استقلالية مالية.

إن تبني “الهيئة” للسلفية الجهادية جعل منها قبلة الجهاديين من خارج سوريا، ووجدت بهؤلاء ورقة غنية في تعاملها مع الأطراف الدولية التي تؤرقها تلك الشخصيات، وجعلت من نفسها بنك معلومات للقوى الدولية الراغبة في التخلص منهم، فعلى سبيل المثال استهدفت الطائرات الأمريكية مقرا لحراس الدين كان مقررا اجتماع لقادة الفصائل الجهادية فيه، إلا أن “الهيئة” كانت غائبة عن ذلك الاجتماع. ويصدر عن “هيئة تحرير الشام” في ظل التفاعلات التي تدور حول المنطقة اليوم العديد من الإرهاصات حول قبولها بمواجهة الفصائل الإسلامية الجهادية المتواجدة في المنطقة كفصيل “حراس الدين”.

مستقبل “الهيئة”

لاستقراء مستقبل “الهيئة” في ظل التطورات التي تحيط بالمنطقة، توجهت صحيفة جسر إلى الخبير في الشؤون السورية في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام) د. سمير العبد الله، والذي أفاد بدوره قائلا:

يبدو أن هناك تيارين في “الهيئة”؛ الأول يتعامل مع الموقف بشكل براغماتي خشية تفككها، والثاني متشدد يرفض أي اتفاق، ويرفض حل “الهيئة” أو اندماجها، و”الهيئة” أمام تحديات كبيرة هذه الأيام، فإما الحل نهائياً، أو الاندماج في فصائل المعارضة المعتدلة الأخرى؛ لتجنب تصعيد جديد من الروس، ومن المحتمل أن تستمر الانشقاقات، وتشمل شخصيات شرعية أخرى، نتيجة التحديات التي تواجهها، أو من خلال الرغبة في إبعاد بعض الشخصيات المتشددة، فيما يبدو أنه رغبة لدى “الهيئة” في إظهار نفسها بمظهر فصيل معتدل.

ويبدو أن الانشقاقات التي حدثت حتى الآن لن يكون لها تأثير كبير على “الهيئة”، وإن أجبرت على تغيير بعض شعاراتها الجهادية، والقبول بالاتفاقات.

و”الهيئة” أمام خيارين:

الأول: التعاون في تطبيق الاتفاق الروسي التركي، وربما نشهد مرونة أكثر من طرف “هيئة تحرير الشام” وقياداتها، وربما تتنازل عن جوانب في ايديولوجيتها نتيجة الضغوط التي تتعرض لها، وربما تكون جاهزة اليوم للقيام بمهمة إخراج المجموعات المتطرفة من إدلب، مقابل السماح لهم بالالتحاق بقوى المعارضة المعتدلة، وربما بـ”حراس الدين” في معركة لحسم النفوذ في المنطقة، والكفة غالباً ستميل لصالحها، وستخرج منتصرة.

الثاني: رفض “الهيئة” التعاون في تطبيق الاتفاقات، حيث ظهر بعض عناصرها يمارسون بعض العنتريات، ويهددون القوات التركية، ويبدو أنه ضمن السياسة الممنهجة لـ”الهيئة”، حيث تقوم بين الحين والآخر بعمليات استفزازية صبيانية، دون حساب لنتائجها، وفي هذه الحالة ربما تشهد المنطقة تصعيد أكبر، ربما يتم تأجيله الآن بسبب الانشغال بمحاربة فيروس كورونا، وهو ما يريده الإيرانيون والنظام، وسيكون له تبعات كارثية على “الهيئة”.

وبدوره اعتبر النقيب رشيد حوراني الباحث في الشأن السوري، أن كل السلوكيات التي تصدر عن “الهيئة” والتي تتماهى مع التطورات الجارية، هي سلوكيات دعائية وبروباغندا مدروسة تعتمدها النواة الصلبة في بنية “الهيئة”، مستفيدة من المركزية الشديدة، والحلقة الضيقة التي تمسك بزمام الأمور، كما أنه من المحتمل أن تكون هذه الحلقة هي من تدفع بالمتشددين إلى الإنشقاق عنها من خلال التضيق عليهم ومنعهم من صلاحياتهم المطلقة، ودليل ذلك انشقاق أبو مالك التلي. أو تقوم بالتعاون مع الأطراف الدولية باستهدافهم باعتبارها بنك معلومات عن تواجدهم وتحركاتهم. وهي أيضا من جانب آخر تحاكي المجتمع السوري وثورته بتلك الانشقاقات وما ينتج عنها؛ منها على سبيل المثال تأسيس أبو العبد أشداء بعد انشقاقه ما يسمى ب”تنسيقية الجهاد” ومعلوم لدى الجميع أن التنسيقيات كانت في بداية الحراك الثوري، وهدفت إلى توحيده وتجميعه، وهدفها في المحصلة القبول والاعتماد.

قد يعجبك ايضا