من يتذكر”إرضاع الكبير”و”مفاخذة الرضيعة”؟

جسر – صحافة

مع التعاطف العارم الذي حظيت به شيرين أبو عاقلة لمناسبة استشهادها برصاص إسرائيلي؛ ظهرت أصوات تقول بعدم جواز الترحم عليها من قبل مسلمين لأنها “نصرانية”. ثم، كالمعتاد في هذه الحالات، حجزَ الردُّ على تلك الأصوات حيزاً من الاهتمام هو أقصى ما يريده أصحابها. فالمزايدة بالإسلام أتت بالنتيجة المرجوة، وحجز المزايدون كما اشتهوا مكاناً في ثقافة التريند الذي سريعاً ما يحل بدلاً منه تريند آخر لا يندر أن يكون بمزايدة من نوع مختلف.

والترحم العام على شيرين أبو عاقلة هو كما نعلم فعل سياسي، واختراقه بحكم ديني غير قطعي حرْفٌ له عن سياقه، وقائم أصلاً على إحداث صدمة لدى جمهور المترحمين. وهذه ليست المرة الأولى في السنوات الأخيرة التي يُصار فيها إلى إثارة “عدم جواز الترحم على غير المسلم” بسبب وفاة شخصية عامة مسيحية، رغم أن السوابق لم تكن بحجم التعاطف الذي نالته شيرين، والتكرار والإلحاح هنا يدلان على فشل في الوصول إلى المراد، لو كان المراد اقتناع المسلمين بهذه الفتوى. ولعل مصير استرجاع بعض الفتاوى القديمة، التي لا يعوزها الحجة والمنطق الخاص، يدل على مصير المزايدات الحالية.

قبل خمسة عشر عاماً بالضبط قدّم د.عزت عطية اعتذاراً عن فتواه التي أجاز بها للمرأة إرضاع زميلها في العمل، منعاً للخلوة “المحرّمة” بينهما، والتي تحدث أصلاً بحكم ظروف العمل لا لدوافع أو رغبات شخصية. الدكتور عطية ليس اسماً وهمياً على حسابات التواصل الاجتماعي، فهو كان حينها رئيس قسم الحديث وعلومه في كلية أصول الدين-جامعة الأزهر.

تراجعُ الدكتور عطية عن فتواه لقي انتقادات من مزايدين على مؤسسة الأزهر التي رفضت الفتوى، وهو أيضاً حال مدافعين عن فتوى جواز مفاخذة الزوجة الرضيعة، حيث نعثر في المواقع المهتمة على نقاشات تفصيلية في ما يخص السن الشرعي لـ”وطء” الزوجة، وما هو مباح بخلافه قبل ذلك. بالطبع، لا خلاف على أن المقصودة بالجدل برمته هي “الزوجة الرضيعة”، وهي تعريفاً لا تكون قد بلغت عمر السنتين، لأن مفاخذة الرضيعة غير الزوجة بمثابة شروع في الزنا.

يلزم أن تكون لنا مخيلة “ألترا بورنوغرافي”، لنتخيل وجود جموع غفيرة من المسلمين تطبق هاتين الفتويين، ولنستدل بها على أن هذا هو الإسلام الحقيقي الذي حاولت من قبل جموع أخرى خداعنا بتجميله، وتحاول اليوم الاستمرار في الخداع بالقول أن هذا ليس هو الإسلام. في الواقع، يكفي أن تنكشف الآن حالة إرضاع كبير أو مفاخذة رضيعة، لنعرف من حجم الاستنكار والاستهجان القيمةَ الراهنة للفتوى لدى عموم المسلمين.

هناك لمن يشاء مؤلفات حديثة عن أحكام الرق في الإسلام، رغم انقضاء زمن العبودية عالمياً وفي البلدان الإسلامية، ورغم أن أصحاب تلك المؤلفات لا يدعون إلى استئناف زمن العبودية، لكنهم مستعدون للدفاع عن أحكامها الشرعية حتى النهاية. عن الفارق بين الدفاع عن النص وتطبيقه، لدينا مثال أكثر شيوعاً هو عدد المدافعين عن تعدد الزوجات، بمن فيهم النساء، وهو عدد يفوق بأضعاف مضاعفة أولئك الذين يطبقونه في حياتهم الشخصية، ولا يندر وجود مدافعين شرسين عن المبدأ “كجزء من دفاعهم عن الإسلام” من دون الرغبة في تطبيقه.

الواقع يقول أن تعدد الزوجات انحسر لأسباب اقتصادية واجتماعية، فتحول عملياً لدى النسبة الساحقة إلى “حقّ مع وقف التنفيذ”. بل أبعد من ذلك، تزايدت نسبة غير المقتنعين بتعدد الزوجات، يدل على تزايدها الاستهجانُ الاجتماعي المتزايد له، مع صعوبة الجهر بثقافة تبدو شكلياً مخالفة لحق شرعي.

نكون انتقائيين جداً عندما لا نرى صعود هذه الشعبوية الإسلامية من ضمن صعود الشعبوية عالمياً يميناً ويساراً، وإذا لم ننتبه إلى مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي في صعود الشعبوية، ما يستلزم أيضاً الكفّ عن تلك الحفاوة غير المحدودة بزمن وسائل التواصل واقتصار النظر إليها على كونها انفجاراً ديموقراطياً يكسر احتكار المعرفة. فمن دون دحض فكرة كسر الاحتكار، لدينا شواهد أكثر من أن تحصى على غلبة التريند الذي آلَ في الكثير من الأحيان إلى التبسيط ثم الضحالة، ليكون السباق على تصدر التريند محفزاً على المزيد من الضحالة والإثارة معاً، الأمر الذي يحققه التطرف من أي نوع كان بسهولة.

في واحد من أهم جوانبه، تنظيم داعش هو إبن لهذه الالية المنتمية إلى ما بعد الحداثة بقدر ما يبدو موغلاً في التاريخ، فهو “مع ادعائه تمثيل الإسلام الصحيح” ينتمي إلى سباق التريند أكثر من كونه مشروعاً سياسياً قابلاً للتطبيق. إنه ليس امتداداً للجهادية الإسلامية “الكلاسيكية”، فالأخيرة تنتمي بطريقة بنائها المفاهيمي إلى زمن الحداثة، إلى التوتاليتارية على نحو خاص، وهي قد تقادمت مع أدواتها وزمنها لأسباب مغايرة لصعود التريند ثم اختفائه.

قد لا يخلو التصدي لأولئك المزايدين إسلامياً، على المسلمين أولاً، من فائدة تتعلق بحيوية الفضاء العام، إلا أن الفائدة تبقى منقوصة ما لم تتم ملاحظة جانبين مهمين. فأولاً تأتي الفتاوى الجديدة، أو التذكير بقديمها، لإحداث صدمة ما، والصدمة تعني أن الممارسة الفعلية للمسلمين افترقت عن مضمون تلك الفتوى، وهو بالتأكيد مضمون لا يحمل الإلزام لناحية التحريم أو فروض العبادة المعروفة. ثانياً، من المهم الانتباه إلى ارتباط هذه الظاهرة بصعود وسائل التواصل، مع ملاحظة انتشار الشعبوية على المستوى العالمي بواسطتها أيضاً. الأمر لا يتعلق هنا بالشعبوية الإسلامية من ضمن شعبوية أوسع فحسب، بل أيضاً بالمسار الذي تأخذه المعرفة ربطاً بتلك الوسائل وضمن مسارين غير متطابقين أو متساندين؛ كسر احتكار المعرفة من جهة، وتعميم السطحية ومنطق الإثارة من جهة أخرى.

من المرجح، بعد سنوات، أن ينضم الجدل حول الترحم أو عدم الترحم على “النصارى أو اليهود” إلى غيره من الفتاوى التي أثارت جدلاً ثم طواها النسيان. ومصيرها هذا بمثابة دليل على أنها ليست الإسلام مع أنها ليست افتراء عليه كما كان في زمن مضى، أو كما كان في حالات غير معممة، لا كما هو في الحاضر. في أقصى الأحوال، سيأتي باحث بعد مئات السنين ليبني على اكتشافه هذه الفتاوى أننا كنا قوماً غريبي الأطوار، من تقاليدنا إرضاع الكبير ومفاخذة الرضيعات وعدم الترحم على الموتى الذين لا يشاطروننا عاداتنا.

المصدر: موقع المدن (عمر قدور)

قد يعجبك ايضا