وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

حي صلاح الدين في حلب/رويترز

جسر: نص:

حي صلاح الدين في حلب/رويترز

(1)

أرسل لي صديق دردشة بين امرأتين جرت منذ خمس سنين في حديقة/مقبرة حي “صلاح الدين” في حلب، ربما جرت الدردشة قبل أربع سنوات أو ثلاث، لكنها جرت بالتأكيد عندما عزّت المقابر على قتلانا وأمواتنا في حلب، ولجأ الأحياء إلى دفن الموتى في الحدائق ومنصفات الشوارع العريضة، أعرف هذا لأن قريبي العزيز دفنه أهله في حديقة صغيرة في حي “حلب الجديدة” قرب بيتهم، لم يجدوا له قبراً يستقبله إلا في تلك الحديقة في زمن براميل الموت و صواريخ سكود، وحرب حلب على حلب.

المحادثة/الدردشة بين امرأتين ما، أنقلها لكم كما وردتني من صديقي اليوم، بدون تزويق وتعديل، قص ولصق، يعني نسخ فقط:

  • بعد زمان! وينك ما شفناكي من شهور؟ إشو كني نزحتي؟
  • لا والله.. استشهد جوزي عالجبهة وامبيرحة لطلعت من العدّة..
  • الله يرحمه، ليكي عن تجربة والله، مية جوز يرحلك ولا ولد، انا جربت التنين وبعرف الفرق اسمعي مني!
  • يا خيتو أنا جوزي كان كل حياتي والله ما عم أعرف أعيش بركي هيك شي برميل بياخدني وراه وبخلص!
  • اتقي الله، ما بصير هيك! وأنا كان منيح معي والله، وراح وهو صغير بالخمسينات؛ بس كلو كوم وهالبنات اللي انخطفوا من عيوني كوم..

تشير الخالة الأنيقة بسوادها إلى القبر القريب من مجلسهما، ثم تخفي وجهها بكفها وتبكي..

  • ما بقي غير أنا وهالطفلة اليتيمة بالبيت (حفيدتها التي فقدت أمها وأباها)..
  • دي أنا لازم أمشي لسه ما طبخت للولاد، بشوفك بكرة هون عند قبر البنات؟
  • أنا كل يوم المسا هون..
  • يا أبو ابراهيم مانك ساقي القبر منيح! ليك فيه زرعة بلشت تيبس.. خاطركم..

انتهى النسخ.

بهذه الكلمات البسيطة كم نختزل من القهر؟ بهذه الأمنيات وأحلاها مرُّ كيف نستطيع الحياة؟

بهذه الطريقة الغريبة كيف نصنع الصداقات؟ بهذه القبور المنسية كيف ندفن عذاباتنا وأحلامنا؟

أيا رب ألسنا من عداد خليفتك في الأرض؟ ألم تسمعنا نصرخ: يا الله ما لنا غيرك يا الله

“تعب الطين،

تعب طينك يا رب!”

(2)

استمعت لشهادة إحدى المعتقلات السوريات منذ ثلاثة أيام، روت بكثير من الألم والقهر كيف تم تعذيبها واغتصابها وإذلالها بكل أنواع العقوبات التي ابتكرها عقل الجلاد، لم تتأثر بما لقيته هي من أهوال العذاب بقدر ما شاهدته يجري على جسد زميلتها المرحومة فلانة، تلك الزميلة اغتصبوها عدة مرات، وخوزقوها بالعصي وأنابيب الصرف، ثم أدخلوا في رحمها فأراً، نعم فأر حي ويسعى، و تركوها تنزف حتى الموت.

قالت الشاهدة:

تمنيت الموت و أنا أراهم يُدخلون الفأر في رحم الأخت، ومازلت أتمنى الموت على أن لا أروي ما رأيت…

صدق المتنبي يا رب،

لم يكن كاذباً أو ضارباً في الرمل،

صرنا فعلاً نشتهي الموت:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا

و حسب المنايا أن يكنَّ أمانيا..

قد يعجبك ايضا