يوم كُسِرَت “المخابرات العامة” السورية

بقلم حسام جزماتي

 جسر: متابعات:

كان رفعت الأسد يتمشى في الحديقة الداخلية لمقر جهاز المخابرات بكفرسوسة، ومعه العقيد نزيه زرير مدير إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) صباح ذلك اليوم من أيار 1980، ويناقشان الكارثة التي حصلت قبل ساعات عندما تمكن 17 من معتقلي الإخوان المسلمين، بينهم قائدان عسكريان، من الفرار من السجن التابع لفرع التحقيق، والواقع ضمن هذا المجمّع الأمني الحصين.

01_0.jpg
العقيد نزيه زرير

كانت كل الدلائل تشير إلى دور رئيس المفرزة، الرقيب طاهر الحوري، في تهريب المساجين. فهو غائب الآن، بينما أفاد عناصره، بعد أن استيقظوا من نوم مفاجئ ثقيل، أنهم لم يعوا شيئاً بعد أن سقاهم الميلو بحليب احتفالاً بخطبته المزعومة.

رغم أن طاهر كان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية إلا أنه لم يكن مجنّداً عادياً، فهو ابن أخ المقدم حسن رئيس فرع التحقيق، الذي أقنعه بالالتحاق بالجيش بينما يتابع دراسته الجامعية في قسم الأدب العربي، على أن يفرزه للعمل تحت إمرته، وهو ما حصل.

كان المقدم حديث عهد بالفرع. ويروي سجناء سابقون أن تعامله معهم اتسم بكثير من العدالة والرأفة. أما طاهر فقد أثار لطفه شكوكاً عميقة لديهم في البداية، قبل أن يتبينوا أن هذه هي طبيعة الشاب الرقيق، الذي كان يشاركهم في صلاة الجماعة والإفطار في صيام النوافل أيام الإثنين والخميس، وقبل أن يكلفوه بمهام وبالتواصل مع أشخاص في الخارج ويتأكدوا من صدقه.

02_0.jpg
المقدم حسن الحوري

كان التناقض ينخر ابن الخامسة والعشرين بين الوظيفة التي يؤديها وبين شبه السجناء بأولئك الذين اعتاد رؤيتهم في دروس مسجدية دأب على حضورها. وفي ليالي الفراغ الطويلة كان رئيس المفرزة يستدعي من شاء من المعتقلين ليشاركه السهر، وكان هؤلاء مشغولين بشرح «دعوتهم» والدفاع عنها. لم يكن طاهر يحتاج لأكثر من هذا في الحقيقة، ومن اللسان المحنّك لعدنان شيخوني، مدرّس اللغة العربية ومسؤول الجناح العسكري للإخوان المسلمين في حلب (التنظيم العام)؛ ليشعر أن عليه أن يتخلى عن مهمته في سجن هؤلاء وأن يساعدهم على الهروب، دون أن ينتسب إلى تنظيمهم لا في هذه المرحلة ولا في شهور التخفي اللاحقة.

وقد أسعف الحظ أحد الناجين فعاش حتى بلغ الستين بعد أن كان ينتظره الحكم بالإعدام. وقبل وفاته عام 2013 سجّل وقائع عملية الهروب في كتاب صغير بعنوان «ما لا ترونه». كان سليم عبد القادر (زنجير) شاعراً ملتزماً شاباً وطالباً في كلية الهندسة عندما قُبض عليه من قاعة الامتحان في 1979. وبعد أشهر من التحقيق والتعذيب في حلب نُقل إلى العاصمة ليواجه مصيره. وتشاء الأقدار أن يكون أحد السبعة عشر في عملية الفرار، ثم أن يكون جزءاً من قلة منهم استطاعت عبور الحدود، فيما قضى أكثرهم في مواجهات مسلحة في دمشق وريفها، أو ألقي القبض عليهم مجدداً، كما هو حال طاهر نفسه الذي استُدرج إلى كمين بينما كان يبحث عن سكن، فأودع في المفردة رقم (6) في السجن الذي كان يحرسه، ليُرحّل بعدها إلى تدمر ويُعدَم فور وصوله إلى هناك، بقرار من المحكمة الميدانية التي سجّلت إلى جانب اسمه أنه عضو في «التنظيم المسلح للإخوان المسلمين».

غير أن الأمر أبعد من مجرد حكاية مثيرة أدت إلى مقتل بطلها وتلقي عمه عقوبة إدارية بنقله إلى سلك الشرطة ونجاة حفنة من السجناء. إذ يؤرّخ المهتمون بالأجهزة الأمنية السورية انقلاباً حقيقياً ونهائياً حصل إثرها في طبيعة وتركيبة إدارة المخابرات العامة. فما كان يهم رفعت الأسد، أكثر من إعادة القبض على بضعة عشر سجيناً، هو الإمساك بهذه الإدارة التي بانت عورتها ووقعت تحت وطأة الاتهام بأنها «مخترقة». اعتباراً من اليوم التالي للحادثة بدأت التغييرات. وخلال أقل من عام كانت نسبة 70 – 80% من الجهاز قد تبدلت، من رؤساء فروع وأقسام وشعب، ليحل محلهم ضباط باللباس المموه، منقولين من قوات رفعت «سرايا الدفاع»، أو من المحسوبين عليه من قطعات الجيش.

كان هذا الجهاز وريث «المكتب الثاني». وكان يعدّ نفسه مؤسسة دستورية مرتبطة برئاسة الجمهورية. وكان مكوّناً من مدنيين بالدرجة الأولى. وقد قاوم مسيرة عسكرته البطيئة خلال السبعينات، ليقع بالضربة القاضية بعد الهروب، وتُفتَح أبوابه لتضخم عددي منخفض الكفاءة شديد البطش، مستلهماً أساليب المخابرات العسكرية التي كانت الرابح الثاني والمستدام من هذه الحادثة، فعملت، وخاصة تحت إدارة علي دوبا، على استنزاف رصيد المخابرات العامة من أرشيف وصلات، والاستمرار في التفوق عليها في الميزانية والتجهيزات، فضلاً عن اختلال الميزان الطائفي، وهو الأمر الذي كان قد ترسخ في الأمن العسكري منذ وقت بعيد.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا ١٢ تموز ٢٠٢٠

قد يعجبك ايضا