6 آلاف مدني ثمن “تحرير” الرقة: من يطمس الحقيقة ولماذا؟

ريهام منصور

انتشل فريق الاستجابة الأولية في الرقة جثث ٣٩ شخصاً من عائلة البدران جلهم أطفال ونساء، كانوا قد قتلوا نتيجة غارة جوية نفذتها طائرات التحالف الدولي على منزلهم قرب الجامع الحني شرقي مركز مدينة الرقة، قبل نحو سنتين ودفنوا على عجل في إحدى حدائق المدينة، وعند تفتيش الجثث عثروا على هاتف جوال في جيب إحدى الفتيات، توثق فيه الساعات الأخيرة من حياتها وحياة اسرتها، ويتضح فيه عدد النساء والأطفال الكبير، وظروف الحصار القاسية، والأهم من ذلك كونهم مدنيين لا علاقة لهم بتنظيم الدولة، بل لعلهم من ألد أعدائه.

وتشير الأرقام الرسمية لفريق الاستجابة الأولية، الذي تم تشكيله لانتشال جثث الضحايا من تحت الأنقاض والمقابر الجماعية التي دفن فيها القتلى على عجل، إلى انتشال ٣٣١٠ جثة، منها ٩٥٠ انتشلت من المقابر الجماعية، و١١٩٧ جثة انتشلت من تحت الأنقاض نتيجة القصف الذي طال الأحياء السكنية، بينهم ٣٥٥طفلاً و١٠٥طفلة، كما عثر الفريق على٧٤ جثة مشوهة الملامح، غالبيتها تعرضت لاحتراق كامل، وأخرى تفسخت على الطرقات وفي الأزقة، ويبدو أنها تعود لأشخاص قتلوا بقناصات طرفي الصراع.

تسع مقابر

وبلغ عدد المقابر الجماعية التيعثر عليها الفريق حتى الآن تسع مقابر، هي: الفخيخة جنوبي نهر الفرات، التاج الجماعية، البانوراما، ملعب الرشيد، الجامع العتيق، حديقة حارة النجارين، ثلاث مقابر في حارة البدو. ويؤكد متابعون من أبناء الرقة، أن هذه الأرقام غير دقيقة، وأن عدد الجثث المنتشلة من قبل الفريق ومن قبل الأهالي بلغ نحو ستة آلاف ضحية، إضافة إلى عدد كبير من المفقودين، يحتمل أنهم ما زالوا تحت الأنقاض، أو في مقابر جماعية لم تكتشف بعد.

وتطرح تلك الأرقام والمعطيات حقيقة مأساوية، تتمثل بالكلفة البشرية الهائلة لدحر تنظيم الدولة من قبل التحالف الدولي، ولم تقتصر هذه الحقيقة الصادمة على الرقة، فهي تتعداها إلى مناطق أخرى في سوريا، مثل منبج والطبقة وأرياف دير الزور، ناهيك عن مدن العراق كالموصل والأنبار وغيرها، وهو ما دفع ضابطاً فرنسياً رفيعاً لرفع صوته احتجاجاً، وكتابة مقال في صحافة بلاده يشجب فيها ما حدث.

“صورة مقيتة”

فقال الكولونيل فرانسوا ريجي لوغرييه، الذي يتولى مسؤولية توجيه المدفعية الفرنسية الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية “إن التحالف ركز على الحد من الأخطار التي تواجه قواته، وأدى هذا إلى زيادة كبيرة في عدد القتلى من المدنيين ومن مستويات الدمار”. وأضاف “كان بإمكان التحالف القضاء على المقاتلين المتشددين الذين لا يتجاوز عددهم ألفي مقاتل، ويفتقرون إلى الغطاء الجوي أو العتاد التكنولوجي الحديث، بشكل أسرع وأكثر كفاءة بكثير من خلال إرسال ألف جندي فقط”، ولفت إلى أن ذلك أعطى صورة مقيتة للناس لما قد تكون عليه عملية تحرير بلد على الطراز الغربي، مخلفين وراءه ظهوراً وشيكاً لعدو جديد.

لكن هذا الكلام لم يرق للقيادة الفرنسية، وقال متحدث باسم الجيش الفرنسي في رسالة نصية “ندرس حاليا فرض عقوبة على لوغرييه”، كما حذفت صحيفة “ريفيو ديفانس ناسيونال” مقالة لوغرييه من موقعها.

كان بوسع التحالف تنظيم العمليات

وتنطوي هذه الحادثة على إشارة واضحة، لتوجه قوات التحالف وشركائها المحليين، لإخفاء حقيقة ماجرى، والكلفة البشرية الكبيرة للانتصار على تنظيم الدولة في صفوف المدنيين الأبرياء، وهي كلفة كان يمكن تحاشيها وفق تقديرات الخبير العسكري السوري عبد الناصر العايد، الذي قال “كان بوسع قوات التحالف الدولي أن تنظم العمليات بشكل أفضل، وتصل لأهدافها كاملة لو تم الاعتماد على مقاتلين من أبناء المنطقة، فالمشكلة في حرب العصابات هي قدرة الطرف الآخر على التخفي بين المدنيين وفي الأحياء السكنية، مما دفع قوات التحالف وقسد إلى استعمال التدمير المساحي للقضاء عليهم، بينما كان يمكن الوصول الى هؤلاء عن طريق أبناء المنطقة، الذين يعرفون عناصر داعش فرداً فرداً، ويستطيعون قتلهم أو أسرهم دون إلحاق أي اذى بالمدنيين، لكن ما حدث كان نقيض ذلك، إذ تم الاعتماد على مقاتلين أكراد، معرفتهم حتى باللغة العربية ضعيفة، ولا يعرفون جغرافيا المدينة، ناهيك عن جنود التحالف الذين كانوا يعملون بعماء كامل، بينما تم استبعاد مقاتلي قسد من أبناء المنطقة، مثل فصيل ثوار الرقة، وقوات النخبة، وغيرها، وهو إجراء أقل ما يقال فيه أنه قصدي وعن سابق إصرار، ويتسم بعدم المسؤولية الأخلاقية والمهنية، ويتم التغطية عليه اليوم بقرع طبول الانتصار على داعش، مع تجاهل تام لدماء آلاف الأبرياء التي سفكت على طريق هذا الانتصار المكلف دون مبرر”.

من المسؤول؟

وتفتح هذه الوقائع الباب على مصراعيه للسؤال الحقوقي: من المسؤول عن هذه الواقعة، وكيف سيتم التعامل معها، ومن سيعوض على الضحايا وذويهم، وفي هذا الصدد يقول فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الانسان “كان يجب على التحالف إنشاء ممرات آمنة لخروج المدنيين قبل وأثناء العمليات العسكرية، لكن تم تجاهل ذلك، فغضت القوات البصر عن حياة المدنيين في خضم السعي لتحقيق انتصار عسكري”.

وأضاف عبد الغني “إن المسؤولية في مقتل هذه الأعداد الكبيرة لابد من تحديدها، لتقديم الاستحقاقات لأسر الضحايا، مثل التعويض المادي والمعنوي، وكون التحالف الدولي هو المسؤول، أو المتسبب بوقوع الضحايا، فإنه المطالب بتكريم عوائل الضحايا وتخصيص مبالغ مالية، والتعويض عن دمار المنازل عن طريق المباشرة بإعادة الإعمار بشكل عاجل”.

طمس هويات الضحايا

إن مهمة انتشال وتوثيق أسماء الضحايا، تقوم اليوم على عاتق فريق مؤلف من ٣٩ شخصا، معظمهم لم يتلق تدريباً تخصصياً في هذا المجال، وبمعدات بدائية لا تلبي الحاجة، خاصة على صعيد تحديد هويات الضحايا، فمن حق أسر وعائلات هؤلاء الحصول على جثامينهم على الأقل، كما أن الفريق يعمل في بيئة أمنية تحوم حولها الشبهات، التي يمكن أن تقود إلى طمس هويات الضحايا لأسباب غير تلك السياسية المتعلقة بإخفاء حقيقة ما حصل من الناحية العسكرية، فثمة جهاز أمني يتبع لقسد، يفرض طوقاً أمنياً على أماكن حدوث المجازر، بذريعة البحث عن المفخخات والمتفجرات، قبل دخول فريق الاستجابة الأولية، ويقوم بتفتيش الضحايا، ومن المعروف أن الأشخاص والجماعات في حالة الحرب والحصار، يحملون كل مدخراتهم وممتلكاتهم الثمينة معهم، مع وثائقهم الشخصية، لكن تلك الثروات والوثائق تختفي في حالة الذين يتم انتشالهم من أنقاض الرقة، ولا يعرف الجهة التي تؤول إليها، الأمر الذي يعقد عملية التعرف على الضحايا من خلال التعرف على متعلقاتهم، ويطمس الحقيقة أكثر فاكثر.

يذكر أن قوات سوريا الديموقراطية، بدعم من قوات التحالف الدولي، أعلنت سيطرتها على الرقة يوم 20 تشرين الأول عام 2017، منهية ثلاث سنوات منسيطرة تنظيم “الدولة” على المدينة، وذلك بعد أشهر من المعارك، التي قتل فيها 655 من عناصر “قسد”.

 

عائلة البدران تحت الحصار

المصدر نقلاً عن تلفزيون سوريا ٣ آذار ٢٠١٩

قد يعجبك ايضا